16 سبتمبر 2025
تسجيلرواية يتضاعف فيها الأسى.. أسى احتلال الأرض، واحتلال ابن الأرض! كلمات حارقة بين أب وابنه اختزلت عمراً كاملاً من الفقد واللوعة والترقبّ في أمل لم الشمل العائلي الأصغر الذي يحتضنه شمل الوطن الأكبر. ليس الوطن ذلك النسب المرتبط بالدم أو اللون أو العشيرة، إنما هو القضية والمبدأ الذي لا يحيد. في هذه الرواية عرض للتناقضات التي ما برحت تعتمل في النفس البشرية الأشد تناقضاً.. بين بنوة الدم وقضية تمس شرف الأرض الأم. تتصدر رواية (عائد إلى حيفا) قائمة إبداع الأدب الفلسطيني رغم مرور ما يقرب نصف قرن على وفاة مؤلفها! إنه (غسان كنفاني 1972:1936) أحد أشهر الروائيين العرب في القرن العشرين والذي تنقّل بين عكا ويافا وبيروت ودمشق والكويت، وقد عاش واقع الاحتلال الإسرائيلي كما ضمّنه في أعماله التي بلغت ثمانية عشر إصداراً، وقد تُرجم معظمها إلى سبع عشرة لغة، وتحوّل بعض منها إلى أعمال مسرحية وسينمائية، وذلك بعد استشهاده في انفجار سيارته بعبوة ناسفة، دبّره عملاء إسرائيليون. يعود سعيد برفقة زوجته صفية إلى حيفا بعد مرور عشرين عاماً على تهجير الأهالي بوابل من رصاص قوات الاحتلال، وهما يترقبان لقاء ابنهما (خلدون) الذي لم يتمكنا من اللحاق به في بيتهما لالتقاطه من سريره وقد كان حينها لم يتجاوز الخمسة أشهر.. فيعودا، ليجداه وقد أصبح (دوف) ترعاه امرأة يهودية تبنّته وزوجها، وقد تنكّر لأرضه ولهما، وخدم جيش عدوه وعدوهما، عكس شقيقه (خالد) الذي أصبح فدائياً، وأصرّ على الالتحاق بالمقاومة ضد مشيئة والديه. يصل سعيد وصفية إلى بيتهما في حيفا، وقد عادا أدراجهما عقدين من الزمان روادهما في الأثناء خواطر عن كنه الوطن: أهو الأبوة؟ أم البنوة؟ أم صورة للقدس أو لشهيد العائلة على الجدار؟ أم مزلاج نحاسي؟ أم شجرة بلوط؟ فتستقبلهما مالكته العجوز بالترحاب. أما الشاب طويل القامة، فقد أخذ يحاور والديه -حين اقتحم الغرفة ببدلته العسكرية ليفاجئ بهما- بحديث بدى وأنه قد أعدّه مسبقاً، لا سيما بعد أن سأله سعيد ما إذا كان يخدم في الجيش؟ ومن يحارب تحديداً؟ ولماذا؟ فإذا به يرد بجفاء: «أنا لم أعرف أن ميريام وإفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات. منذ صغري وأنا يهودي، أذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير وأدرس العبرية. وحين قالا لي إنني لست من صلبهما لم يتغير أي شيء، وكذلك حين قالا لي بعد ذلك إن والدي الأصليين هما عربيان لم يتغير أي شيء. لا، لم يتغير! ذلك شيء مؤكد.. إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية». وبينما يواجه والده ممتعضاً عن تركه رضيعاً دونما أي محاولة للعودة قائلاً: «لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح، أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي إنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.. أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه الآن؟». لا يخفي سعيد ألم الطعنة التي وجهها له فلذة كبده في التو، وهو يبرر له أن الخطأ إذا اُلحق بخطأ لا يجعل منه صواباً! ثم يفحمه قائلاً: «ولكن متى تكفون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحساب ميزاتكم؟ مرة تقولون إن أخطاءنا تبرر أخطاءكم، ومرة تقولون إن الظلم لا يصحح بظلم آخر! تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه». ينتهي الحوار بينهما حول الإنسان في حد ذاته كـ (قضية)، فيقول سعيد كلمته الأخيرة: «أنا لا أتحدث إليك مفترضاً أنك عربي، والآن أنا أكثر من يعرف أن الإنسان هو قضية، وليس لحماً ودماً يتوارثه جيل وراء جيل مثلما يتبادل البائع والزبون معلبات اللحم المقدد، إنما أتحدث إليك مفترضاً أنك في نهاية الأمر إنسان يهودي، أو فلتكن ما تشاء. ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي.. وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه». قد تشي الرواية بمعنى أكثر عمقاً من مجرد تنكّر المرء لهويته، إذ لا يحق للباطل أن ينتصر إلا إذا تنكّر أصحاب الحق للحق.. إما عن استكانة أو استسلام أو غدر أو عن إخلاص غير حقيقي! يعود سعيد وصفية أدراجهما إلى رام الله، وقد تمنى سعيد حين بلغ مشارفها أن يكون ابنهما خالد قد غادر نحو جيش المقاومة في غيابهما.. فيقول لصفية وهو لا يزال يفتش عن «فلسطين الحقيقية»، منهياً حديثه حول الوطن وهو يقرّ بأن «الوطن هو ألا يحدث ذلك كله».