15 سبتمبر 2025

تسجيل

أزمة السلوك

09 نوفمبر 2011

بداية أقول لكل محب ولكل مسلم ولكل قارئ: كل عام وأمتنا بخير وحرية وأمان وأمن، وكل عام وأنتم أفضل حالا من الذي قبله، وكل عام وأعيادكم تملؤها الفرحة والبهجة، ثم أعود لأكمل ما بدأناه في هذه الزاوية. يقول ابن خلدون رحمه الله: "حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين، الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، ويوصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدّون عنه الأخبار الصادقة، التي يعاني منها الشعب". يتحدث ابن خلدون هنا عن قضية سلوكية، لطالما كانت سبباً في استبداد الحكام وانتشار الظلم، وكره رعيتهم لهم، وكانت كذلك السبب وراء اشتعال الثورات العربية المباركة، وانتفاض الناس على حكامهم، والقضية باختصار أن الشخص الذي يصل إلى سدة الحكم، سرعان ما يبدأ يفكر بالترف والتنعّم والرفاهية، ويكون الشعب ومشكلاته وما يحتاجه من آخر ما يفكر فيه هذا الحاكم الجديد. استئثار ومرتزقة عندما يصل إلى سدة الحكم يستأثر بأموال الشعب، ومقدرات الدولة فالمال العام يصبح ماله والنفط تحت الأرض ملك له وأراضي الدولة مسرحاً له ولأبنائه وحاشيته، ثم تأتي الخطوة التالية حيث يحيط نفسه بفئة من الناس يشبهونه، لا دور لهم إلا تثبيت دعائم هذا الحاكم، والثناء عليه، والمبالغة في مدحه بالحق والباطل، مقابل الأعطيات والامتيازات. وهؤلاء الفئة لا أستطيع إلا أن أسميهم "المرتزقة"، لأن المال هو الذي يحركهم، وولاؤهم دائماً لمن يدفع أكثر، فهم بلا مبادئ ولا قيم، وإنما دينهم الدينار والدرهم. ولهم دور كبير في عزل الحاكم عن الشعب وهمومه، ودور آخر في منع الشعب من التواصل مع الحاكم، وإذا استيقظ ضمير الحاكم للحظات وسأل عن أخبار الناس، غيروا الحقائق وزوّروا الواقع، وقالوا "كله تمام يا فندم". ما هو السلوك..؟ السلوك (Behavior) بالنسبة لي: هو مدى تطابق الأقوال والأفعال مع القيم والمبادئ. فإذا تطابقت الأقوال والأفعال مع القيم والمبادئ اعتبر السلوك راقياً، وإن تعارضت الأقوال والأفعال مع القيم والمبادئ اعتبر السلوك ناقصاً أو منحطاً. والسلوك هو الترجمة الحقيقية عن مدى تمكن القيم والمبادئ في الوجدان، ومع أن ديننا يحتوي كماً هائلاً من النصوص المليئة بالقيم والدعوة إلى محاسن الأخلاق، وفضائل السلوك، إلا أن المتأمل في حال المسلمين، يجد انفصاماً بين ما يُعتَقد وبين ما يُمارس، وانفصام آخر بين الالتزام في مجال العبادات، والالتزام في مجال التعالم مع الخلق، فكم رأينا ممن هو في غاية التعبد، وقمة الروحانية، ولكنه يسيء معاملة الآخرين. عابدة في النار قد يؤثر سوء التعامل مع الآخرين على أعمالنا الصالحة، والأخلاق السيئة قد تمنعنا من الانتفاع من الأعمال الصالحة يوم القيامة، والنبي (كان واضحاً في هذه القضية، فتروي كتب السنة أن رجلاً جاء إلى النبي مستفهماً فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ.. رواه أحمد. السلوك الحسن ينفع صاحبه يوم القيامة بل إن الأمر يتجاوز حدود الإساءة للإنسان، ليصل إلى الإساءة للحيوان، فقد تكون الإساءة للحيوان سبباً في دخول النار، وسبباً في عد الانتفاع من الأعمال الصالحة يوم القيامة، وفي هذا يخبر النبي عن امرأة دخلت النار بسبب قطّة فيقول: عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ.. رواه مسلم. وعلى العكس من ذلك قد يكون الإحسان إلى الحيوان سبباً في دخول الجنة يوم القيامة، يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.. البخاري. تقرير الشفافية الدولية هناك منظمة عالمية مستقلة تسمى "منظمة الشفافية الدولية" (Transparency International) وهي من منظمات المجتمع المدني العالمية الرائدة في مجال مكافحة الفساد، تصدر هذه المنظمة تقريراً سنوياً حول الشفافية في بلدان العالم. والخارطة التالية تبين حجم انتشار الفساد المالي والإداري في بلادنا العربية، حيث البلاد الأسوأ هي الملوّنة باللون الأحمر، ثم تليها ذات اللون البرتقالي، ثم البنفسجي. وإني أعجب من التناقض الذي تعيشه منطقتنا العربية، لأن الدساتير التي وضعت تشير إلى أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، ثم ترى الفساد بكل صوره وأشكاله ينخر في جسم الدولة، في مؤسساتها وشركاتها بين موظفيها ومديريها. ولست أدري أي نموذج إسلامي سنقدمه للعالم، وهل سننجح في إقناع الآخرين بأن إسلامنا عظيم وهذا حالنا يخبر عنا، إننا لن ننجح في الدعوة إلى الله تعالى، ولن نسود العالم إن لن نغير ونبدل نحو الأفضل، ومما يساعدنا على بلوغ درجة (الشفافية العالية)، أن يُفتتح فرع لمنظمة الشفافية العالمية في كل دولة عربية لمحاكمة الحكومات، ومراقبة سلوك الموظفين، ومحاربة مظاهر الفساد الإداري والمالي. الدين المعاملة لن نكون دعاة حقيقيين ما لم تتحول النصوص التي نحفظها إلى سلوك راقٍ، وما لم تتشكل في شكل تعامل حسن، لأن السلوك الإيجابي يؤثر في الآخرين أكثر من مجرد الكلام الوعظي، ومن يقرأ التاريخ فسيرى كيف أن بلاداً فتحها المسلمون بالأخلاق وحسن التعامل، ولم يفتحوها بحرب أو سيف، ومن تلك الدول "إندونيسيا" التي انتشر فيها الإسلام بسبب صدق التجار المسلمين آنذاك، وبسبب السلوك الراقي الذي كانوا يعاملون به أهل البلد، وبسبب الذوق الجميل في الكلام وحسن المظهر والهندام. ولا أنسى إجابة أحد القساوسة الألمان بعد أن أسلم، واسمه داوود، سألته عن سبب إسلامه فقال: اقتنعت بالإسلام بسبب الأخلاق الحسنة التي كان يتّصف بها صديقي المسلم، فعرفت أن هذه الأخلاق الحسنة سيكون من ورائها دين رائع وجميل وعظيم.