10 سبتمبر 2025

تسجيل

من ناجي.. إلى جمال

09 أكتوبر 2018

 تصرف أرعن يسقط آخر ورقة توت عن الحكومة السعودية التي تمارس الشيء وعكسه  العالم يتحرك من أجل ألا يولد موساد آخر.. ولا قتلة جدد في الثاني والعشرين من يوليو عام ١٩٨٧ قام شخص مجهول بإطلاق النار على العين اليمنى لرسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، وبعد شهر تقريباً أعلن عن وفاته وبقي قاتله مجهولاً حتى اللحظة. ولعل أبرز جهاز قتل في العالم هو الموساد الإسرائيلي الذي نفذ العديد من عمليات القتل حول العالم لمناضلين فلسطينيين أو علماء عرب في العلوم المختلفة. واليوم تعاني منطقة الخليج من وجود ابن الموساد الإسرائيلي وطفله المدلل محمد دحلان كمستشار لولي عهد أبوظبي، يفعل ما يشاء ويفتك بالمواطن الاماراتي قبل غيره، يشدد القبضة الأمنية مستخدماً كل الوسائل القذرة التي تعلمها وعاش عليها عند الصهاينة. وفي الثاني من أكتوبر ٢٠١٨ دخل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي قنصلية بلاده في تركيا ولم يخرج منها وسط ما يدور من أخبار عن أنه نقل للرياض، أو تمت تصفيته من قبل الحكومة السعودية، وفي كلا الحالتين نتمنى أن لا يكون أحدهما صحيحاً من أجل جمال لا من أجل السعودية. هذا التصرف الأرعن في كل الأحوال متوقع من الحكومة السعودية الجديدة، عطفاً على كل السفاهة التي تمارسها في كل المجالات والتهور السياسي والعسكري الذي بدأته في اليمن ولا يبدو أن حصار قطر نهايته. اليوم قدم محمد بن سلمان للعالم كل ما يتمناه خصومه، أو كل ما يتمناه أيضا حكام أبوظبي من تشويه لصورة السعودية، فكل فعل قامت به السعودية لكسب التعاطف الدولي قامت بفعل مضاد له، انفتاح اقتصادي مقابل رمي محللين اقتصاديين في السجون مثل عصام الزامل، السماح بقيادة المرأة وإلقاء الناشطات في السجون، مدينة نيوم والسينما والحفلات وحرب اليمن والتفجير والكوليرا، الانفتاح الرياضي واختيار تركي آل الشيخ ليقوم به ويجلب أسوأ سمعة للرياضة والدولة السعودية. خطف جمال خاشقجي يؤكد ما يقوله الكثيرون في هذا العالم بأن محمد بن سلمان ليس الشخص الذي يمكن الثقة فيه أو الاعتماد على تصرفاته، وهذا يتضح جلياً فيما يقوم به أو يدفع إليه أو من خلال تصرفات كبار مستشاريه. اختفاء جمال لقي أصداء دولية ستسبب حرجاً كبيراً للحكومة السعودية، فالخارجية البريطانية والخارجية الفرنسية أصدرتا بياناً في الأمر، والأمم المتحدة تحدثت عن قضيته وأكدت أنها تتابع التحقيق باهتمام، ويبدو أن من قام بالفعل لم يفكر إلا في الجانب الأمني الثأري فقط، لا السياسي ولا الدبلوماسي ولا الإعلامي. العالم اليوم كله يتحرك بعد سقوط ورقة التوت الأخيرة عن السعودية الجديدة، فالعالم غير مستعد لظهور موساد جديد ولا بروز قتلة جدد. وفي خضم الأحداث وتسارعها نرى الهدوء التركي الذي يدرس، فقد كانت تركيا هادئة في علاج الأزمة، ربما لأنها على أمل أن يكون جمال حياً وتعيده السعودية وتقوم تركيا بتغطية عار السعودية بورقة توت جديدة. ليس المهم بالنسبة لي إدانة السعودية بقدر ما يهمني سلامة زميل لا يجب أن يدفع حياته مقابل الكلمة. لقد دفعنا منذ أن بدأنا في عالم الصحافة الكثير من الأثمان، ولا نزال، على حساب أهلنا وصحتنا وعملنا وتجارتنا وسلامتنا وأمننا، وكل صحفي تعرض لما تعرضنا إليه يعلم حجم الألم الذي يمكن أن يحدث لكل من يتعرض لذلك. أؤمن بحرية التعبير المطلقة، وهذا شيء لا يمكن أن يعرف قيمته الطغاة، والتاريخ السعودي المشين أثبت أنهم لا يتحملون حتى الصمت، وأنهم قادرون على الفتك بأبناء عمومتهم، فكيف بشخص من عامة الشعب، ولا زالوا بعد مئات السنين يعيرونه بأصوله التركية. إن ما يحدث في منطقة الخليج اليوم هو نفسه ما كان يقوم به معمر القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي، فلذلك لا عجب إن رأينا يوماً ما الربيع العربي يعود ليحيا من جديد، لكن هذه المرة عبر الربيع الخليجي، فالطغاة جهلة بالتاريخ، ولذلك يكررون أخطاء من قبلهم. المشكلة التي يواجهها الطغاة في العالم هو العلم، كل متعلم يعرف القراءة والكتابة يشكل خطراً على أي طاغية، ولولا الخوف من المجتمع الدولي لقام بعض الطغاة العرب بمنع التعليم وجعل المجتمع أمياً. يحرص الراغبون في السيطرة على وعي الناس أن يبثوا من خلال التعليم المفاهيم التي تبقي المجتمع مسالماً، وتدفع المجتمع لتبني الأفكار التي يريدون هم أن يتبناها، سواء كانت تلك المتعلقة بالقيم المحلية من عادات وتقاليد للبيئة التي يعيش فيها، أو تلك المتعلقة بالمحافظة الدينية في قضايا معينة تساعد على تثبيت الحكم لا أكثر. كتب فريدريك دوغلاس، وهو عبد سابق أصبح أشد أعداء الاستعباد الأمريكيين فصاحة، كيف منعه مالكه من تعلم القراءة، وعندما تعلم القراءة والكتابة سراً اكتسب القدرة على التفكير بفاعلية وإدراك شرور الإستعباد. وكتب فرانسوا فورستنبرج وهو أحد المؤرخين الذين أعدوا دراسات عن دوغلاس: المدهش أن دوغلاس الذي مر بخبرة التعرض المباشر للمعاملة الوحشية للعبيد كان يرى أن الأمية (لنقل: في مقابل الوحشية) فسرت قدرة الإنسان الأبيض على استعباد الإنسان الأسود. وكان هذا الإدراك أكثر من مجرد إدراك فكري، إذ كان (وحياً)، بكل ما تحمله الكلمة من معان دينية. وكان الدخول إلى مجتمع القراء بمثابة ميلاد جديد، إذ حول دوغلاس من الموت الاجتماعي إلى حياة جديدة. فقد أدرك دوغلاس فجأة الصلة الجوهرية بين إجادة القراءة والكتابة والحرية، وبين الجهل و(قابلية) المرء لأن يكون عبداً. يقول ألبرت آل جور: اليوم بتعرض العقل لهجوم من قوى تستخدم أساليب أشد تعقيداً: الدعاية، وعلم النفس، ووسائل الإعلام الإلكترونية، لكن المدافعين عن الديمقراطية سيبدؤون باستخدام أساليبهم المعقدة: الانترنت، والتنظيم بالاتصال المباشر على الانترنت، والمدونات، والوايكيز. وفي عالمنا العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص فإن للسلطة فريقين، فريق تدعمه أمام الشعب وهو الفريق الديني المحافظ، وفريق تدعمه في الخفاء وهو الفريق الليبرالي العلماني الذي يدعي معارضته لبعض ما يصدر عن الحكومة، فالليبراليون في منطقتنا متطرفون أكثر من المتشددين دينياً، وتستخدم الحكومات هذا التطرف فيهم بمثل ما تستخدم التشدد عند التيار الديني، فهي أمام شعبها الحكومة المحافظة التي تحترم الدين وتعالميه وتحافظ عليه وإن أطلقت العهر في القنوات وسمحت ببيع الخمر والدعارة في الفنادق، وأما الغرب فهي الحكومات الديمقراطية التي تدعم التيار الليبرالي والعلماني أمام التشدد الديني ولو منعت المرأة من القيادة أو الانتخاب أو جعلت السجن مكاناً لكل من يخالفها في الرأي. وحتى التيار الليبرالي والعلماني البارز في المجتمع يمكن اكتشاف أنه تيار مسبق الدفع بسهولة، ففي أول موقف تتحدث فيه الدولة عن تهديد السلم الوطني أو الحكم تجد الليبراليين والعلمانيين أول من يصطف في صف الإقصاء وتطبيق القوانين العرفية وإستخدام مصطلح ولي الأمر والأحاديث التي تؤكد عدم جواز الخروج عليه. فالولاء قبل كل شيء، حتى لو كانت الحقوق والكرامة الإنسانية. لهذا ورغم أن جمال خاشقجي يعتبر أيقونة متقلبة لا يعرف إنتماؤه الحقيقي، فلا هو متطرف ولا هو مبالغ في الانفتاح، إخواني المظهر ليبرالي التصرفات، وله علاقات مع كل طبقات المجتمع وفئاته، إلا أن ذلك لم يشفع له عندما قرر أن يكون "من الناصحين". سيبقى جمال خاشقجي وسيبقى ذكره، كما بقي ناجي العلي ويحيى المشد، وسيذهب من قتله أو فكر في إيذائه لو كان حياً إلى حيث ذهب القذافي وصالح وبن علي. مارك توين لديه فكرة جميلة عن الولاء يقول فيها: في النقاش السياسي الحالي تم تحديد الحدود ورسم الخطوط. وأولئك الذين يخرجون عن هذه الحدود وينتقدون السياسة الرسمية يطلق عليهم غير وطنيين وخونة. عندما يطلق الناس مثل هذه الاتهامات ضد المعارضين فإنهم يكونون قد نسوا معنى الولاء والوطنية. الوطنية لا تعني مساندة حكومتك، إنها تعني كما قال مارك توين: مساندة بلدك. [email protected]