10 سبتمبر 2025

تسجيل

جينات الاغتيالات والإبادة في العقل الباطن للكيان؟

09 أغسطس 2024

سيبقى موقع الجزيرة منجما ثريا من الدراسات الجادة حول محاور شديدة الأهمية وترتبط ارتباطا وثيقا بحياتنا العربية والإسلامية وبالعلاقات الدولية. ومن بين هذه الدراسات التي نشرها الموقع هذه الأيام بقلم متعمق مبدع للأستاذ سامح عودة ينطلق من استشهاد رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية. جريمة الاغتيال هذه ليست أمرا طارئا ومستحدثا في السياسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، بل عقلية إجرامية تحمل إرثا طويلا وجزء من إستراتيجية أيديولوجية أوسع تنظر لقادة المقاومة الشرعية ولمن هم أدنى منهم في «سلم الترتيب الاجتماعي» بوصفهم خطرا مستمرا على الاحتلال وأنهم تذكير ممتد لـ«الخطيئة» التي خلّفوها بعد حرب النكبة واحتلال فلسطين عام 1948 أي ما تعتبره الصهيونية خطأ ارتكبته ميليشياتها بإبقاء بعض الفلسطينيين أحياء على ما تبقى من الأرض. وعلى الرغم من أن تأثيرات اغتيال القادة أكبر، فإن الممارسات الإسرائيلية الممتدة على مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني تطرح سؤالا جديا حول الفوارق التي يشرعن عبرها جيش الاحتلال استهدافه لشخصية سياسية وعسكرية، في ظل استدعاء قادة جيش الاحتلال نصوصا ترد فيها مفاهيم الإبادة الجماعية التي لا تفرق بين قائد وفرد كما سيأتي لاحقا في التقرير، فاغتيال هنية، وكما أنه يأتي في ظرف سياسي وعسكري معقد، يشن فيه جيش الاحتلال حرب إبادة على قطاع غزة على مدى 10 أشهر، فإنه يؤدي وظيفة دعائية للداخل الإسرائيلي القائم على إبادة المعادين لهم، وعلى قدرتهم أيضا لإثبات «يدهم الطولى» القادرة على الوصول لأي مكان كما ذكر وزير الدفاع الإسرائيلي (غالنت) أكثر من مرة. ونذكر هنا بالحوار الذي أجرته صحيفة (مومنت) اليمينية المتطرفة مع الحاخام الصهيوني «مانيس فريدمان» حول الطريقة المثلى لتعامل اليهود بفلسطين المحتلة مع جيرانهم من العرب وقد أتت إجابة «فريدمان» صريحة: «إنني لا أومن بالأخلاقيات الغربية، بمعنى أن عليك ألا تقتل المدنيين أو الأطفال وألا تُدمِّر الأماكن المقدسة وألا تقاتل في المناسبات الدينية وألا تقصف المستشفيات والمقابر وألا تُطلق النار قبل أن يطلقها عليك الآخرون.. إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية التي تقول لنا دمِّر أماكنهم المقدسة واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم ولا تتردد في حرق زياتينهم ومحاصيلهم». وقد علَّل «فريدمان» ذلك بأنه الرادع الوحيد والحقيقي للتخلُّص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة وأن تلك هي قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيليين «النور الذي يشع على الأمم التي تعاني الهزيمة بسبب هذه الأخلاقيات (الغربية) المُدمِّرة التي اخترعها الإنسان». بهذا الوصف، قدَّم «فريدمان» عقيدته في التعامل الأمثل مع الفلسطينيين الذين ينغِّصون هناء «الفردوس الإسرائيلي» على حد قوله وهو في هذا لا يتَّبِع وجهة نظر شخصية ولا يتحدَّث من وحي أفكاره وإنما يعتبر الأمر واجبا دينيا وتعليما توراتيا مقدسا لا ينبغي العدول عنه كاشفا لنا بكل وضوح عن الموقف اليهودي من فلسطين وشعبها، والأساس النظري لكل أعمال الإبادة والإرهاب التي مارستها الصهيونية أثناء وجودها بفلسطين المحتلة. لأجل هذا، نحتاج إلى العودة قليلا إلى الوراء، لنرى جذور هذا الخطاب الإبادي وتلك النزعة التي تصر على أعمال القتل والإبادة والتهجير والتطهير العِرقي. فما هذه الجذور؟ وإلام أفضى هذا البناء؟ ففي سياق الحرب التي تشنّها إسرائيل اليوم على قطاعِ غزّة كما أكد الأستاذ سامح عودة استدعى بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيليّة – في أحد خطاباته – نصًّا دينيًّا قائلًا: «يجب أن تتذكّروا ما فعله العماليق بكم وبجدودكم كما يقول لنا كتابنا المقدّس بل نحن نتذكر ذلك بالفعل ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل. وهذا الاستدعاء لم يكن حديثا أيضا ففي كتابه «الجريمة المقدسة» ذكر الدكتور «عصام سخنيني»، أستاذ التاريخ السابق في جامعة «البتراء» الأردنية أن «خطاب الإبادة الصهيوني استخدم التوراة وأسفارها لشرعنة وتبرير جرائمه وممارسته المارقة عن كل قانون دولي في فلسطين ورغم التعارض الصارخ بين الصهيونية بوصفها حركة علمانية والتوراة بوصفها نصا دينيا فقد استغلت الأولى الشريعة اليهودية حتى تتحقَّق لها أطماعها الاستعمارية. ويرى «سخنيني» أن «فعل الإبادة الصهيوني» اتخذ من الرموز والأساطير الكتابية - أوالتوراتية - «مرجعية له يستوحي منها ما فعل الأسلاف لتطبيقه على الواقع الراهن»، وهو ما يؤكده تصريح الأستاذ بجامعة حيفا (بيت هلحمي) إذ يرى أن إسرائيل تتعامل مع كتابها المقدس بوصفه مرجعا تاريخيا يجب تكرار أحداثه التاريخية. ووفق هذه الرواية فإن إبراهام - أو نبي الله إبراهيم - كان أول من عهد إليه «يهوه» (الإله التوراتي) بأرض فلسطين التاريخية، واختص بهذا العهد من ذريته إسحاق ثم يعقوب - أو إسرائيل - لتكون هذه الأرض من بعده ملكا لبني إسرائيل بحق إلهي مقدس. كما يشرح سفر التثنية بوضوح الإستراتيجية الحربية الواجب اتباعها عند دخول البلدان حيث يقول: «حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفُتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك وإن لم تسالمك بل أعلنت عليك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك». وانطلاقا من هذا التأصيل الكتابي يرى الدكتور «رشاد الشامي» الباحث المخضرم في الشؤون العبرية أن هذه القوانين الكتابية «هي التي يتسلمها القادة الإسرائيليون كمصدر وحي وكشريعة مقدسة ». وبمزيد من التأمل سنجد في سفر يشوع بأن «يشوع» عند اقتحامه أرض كنعان -فلسطين التاريخية- مع جيشه من بني إسرائيل، لم يُبقوا عِرقا ينبض بالحياة في كل المدن التي اقتحموها. المدينة بالنار مع كل ما بها». والتحريم هنا معناه الإبادة، وكذلك فعلوا بـ «عاي» التي يحكي النص أن «يشوع» أحرقها «وجعلها يبابا أبديا خرابا».