16 سبتمبر 2025
تسجيلللأسف، فإن المدارس والجامعات والمناصب العليا لا تصنع الزعماء، والزعامة الحقيقية لا يمكن توريثها بما تحمل من صفات القيادة المتقدمة للقائد عن جميع صفوف الصف الثاني وما تحتها من قيادات وظيفية أو سياسية أو حتى قيادة اجتماعية، لذلك ومنذ انتهاء الدولة العثمانية وموت الحكم الإسلامي في تركيا عام 1923 على يد منظومة دولية استعمارية لصوصية كبرى كان أتاتورك هو أداتها، لم يخرج قائد وزعيم حقيقي كما هو الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يختلف معه الكثير من قادة الدول الكبرى خصوصا أوروبا والولايات المتحدة وكل حلفائها في العالم، ويتفق معه قليل ممن يتحلون بالشجاعة لدعم النظام الإسلامي المعتدل في مواجهة هذا المدّ الملوث من الأحكام المطلقة ضد الإسلام وأهله وضد صنّاع التطرف والإرهاب لخدمة مصالحهم الدولية. أردوغان استطاع خلال فترة حكمه إعادة تركيا إلى الطليعة، وأنهى حقبة التبعية العمياء للعالم الغربي المسيطر بمصالحه، وبدأ بإعادة إنتاج المجتمع التركي أيديولوجيا واجتماعيا وسياسيا من خلال منظومة قيم إسلامية في إطار علمانية الدولة، وهذه سابقة مزعجة لـ "حكومة الظل العالمية العلمانية" التي تعتمد في سيطرتها على العالم الجديد من خلال البنك الدولي وصناديق إقراض الدول ونواديه، وإمبراطورية التسهيلات المالية التي يسيطر عليها عائلات يهودية معروفة، لذلك وصل النمو الاقتصادي التركي إلى حدود لم يشهدها في تاريخه، وأحد عوامل هذا النجاح سيطرته على "جمهورية الجيش" المرتهن للغير والذي كان قادته يدمرون كل جسور التقدم للأمام. لهذا لا نستغرب كيف كانت الهجمة الشرسة والمسعورة ضد شخص الرئيس أردوغان ونظامه من قبل طيف واسع من العلمانيين واليمنيين وعبيد النظام الرأسمالي الغربي وعشاق الاستعباد والتبعية والعيش في عباءات الأعداء، فقد كان العالم خلال نصف الشهر الماضي وحتى هذا الأسبوع الجديد منشغل بأحداث تركيا من خلال التحليل والاستنتاج ومحاولة فهم ما جرى وما يجري على الساحة التركية، ومحاولة تصوير المحاولة الانقلابية الفاشلة على أنها مسرحية متقنة افتعلها أردوغان نفسه لإعادة إحياء قيادته، ولكن يا للخسارة، فقد خيب الشعب التركي ظن الجميع، وخرجوا في الشوارع، وكان يوم الأحد الماضي شاهد إثبات على الحشود المليونية التي خرجت للتنديد بالمؤامرة على قيم الحكومة التركية التي تقود الدولة نحو المستقبل في تظاهرة "تجمع الديمقراطية والشهداء". وحدها قطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني هي التي ظهرت علنا لتأييد شرعية الرئيس أردوغان منذ انفجار الأخبار عن المحاولة الانقلابية، واستمرت قناة الجزيرة القطرية طيلة الليل في بث كان يمثل صورة التعبئة وإعادة الروح المعنوية، في معركة إعلامية مع فضائيات الأماني الفاشلة، ولكن محطة تركية محلية واحدة قلبت الموازين عندما خرج منها صوت وصورة أردوغان عبر"فيس تايم"، في الوقت الذي كنا نشاهد مذيعي قناة "فوكس" الأمريكية وهم يؤكدون سيطرة الانقلابيين على ما أسموه "الديكتاتور" والنظام المتطرف في تركيا، وكذلك "إن بي سي، سي أن أن، وسكاي" الجميع كان يتمنى سقوط النظام التركي، جميع الأغبياء والحاقدين والطامعين كانوا يتمنون ذلك، بما فيهم عرب ومسلمون. للأسف هناك من يغلب غايته الشخصية وأنانيته وأحلامه الذاتية على المصلحة العليا والرؤية الأشمل لهذا العالم الذي يجب أن ينتهي من عصر السذاجة والتبعية وصناعة الأعداء، لهذا لم يرّ كثير من العرب النتيجة الكارثية لو نجح الانقلابيون وسيطرت الفوضى على الساحة التركية أو انهارت الدولة هناك، وهذا ما كان يتمناه البعض من الجهلاء المتزعمون، حيث إن تركيا عندما تبقى الدولة الديمقراطية القوية والمتماسكة، فهي زاوية قوية جدا في مثلث الشرق الأوسط، خصوصا في ظل انهيار الدولة في سوريا وتحولها إلى ساحة صراع وكذلك الفراغ الكارثي في العراق، وهذا يبدو ما لم يفهمه الأوروبيون، التي تشكل تركيا خط الفصل أو الوصل بينها وبين الشرق المحترق. إن جملة الرئيس أردوغان خلال خطابه أمام الحشود التركية في تجمع الديمقراطية والشهداء الأحد، كانت كالملح عندما يرش فوق جروح التاريخ، حينما ذكر موقعة "ملازغيرت" في الأناضول، مشبها هبة الشعب التركي لحماية بلده وديمقراطيته، كما اصطف عام 1017 م ضد البيزنطيين وهزيمتهم في معركة ملازغيرت التي وقت في العهد السلجوقي، والتي كانت فاتحة للحكم العثماني فيما بعد لفتح بلاد الأناضول وأوروبا والوصول إلى بوابة العاصمة النمساوية ونشر الإسلام هناك. إن هذا السرد التاريخي الذي يبدو أن أردوغان يحفظه، يقض مضاجع المرجعيات السياسية العليا في العالم الغربي والشرقي أيضا، إذ يخشى قادة الفكر التطويري للسياسات العالم الجديد من نشوء نزعة "العثمنة" وعودة حكم الإسلام بأقوى صوره، من خلال دولة حضارية متقدمة مثل تركيا، وهذا ما لا يقبله العالم المتحضر للأسف مرة ثالثة، فهم يريدون المسلمين في الشرق الأوسط كالوحوش التي تنهش بعضها بعضا، وهذا ما يجعل بلادنا ساحة حرب دائمة، ولكن يبدو أن تركيا قد دخلت عصرا جديدا، بعدما خرجت سريعا من نفق مفاجئ، ويجب على الدول العربية أن تعيد حساباتها لإعادة التكيف مع الوضع الجديد في تركيا، إنها حليف قوي يجب التحالف معه للخروج من القطبية السياسية وحل مشكلات الشرق الأوسط العالقة، فهؤلاء ليسوا عثمانيون جدد، بل دولة مسلمة عصرية ورائعة للعيش من دون سيطرة الحكم العسكري على غرف الولادة في المستشفيات.