18 سبتمبر 2025
تسجيلها قد حل شهر رمضان الفضيل المبارك علينا من جديد، ونحن لا نزال نخوض المعارك الكبرى على جميع الجبهات الحربية والسياسية والاجتماعية والفكرية وحتى الأسرية ثم "المعارك المأكولية"، فنحن ننفق على المأكولات أكثر من إنفاقنا على التعليم وتحفيز التفكير باعتقادي، وأنا أتكلم هنا عن عالمنا العربي بعمومه وهو المعروف بشمائل طيبة على رأسها الكرم، ولكن أي كرم نعني؟ فهل التبذير والإسراف من الكرم؟ ثم إن الكرم هو أن تتنازل أيضا عن بعض من عنفوان كاذب، وجنون عظمة عند البعض، وعن أحقاد شخصية، وعن بعض من الحقوق الاجتماعية والسياسية في سبيل إحياء تراث هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر، كما وصفها رب العزة الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء. رمضان المبارك هذا لن يغير شيئا على واقع الحال العربي للأسف، لأن العرب وقياداتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية والحاكمة أيضا لا يريد أحد منهم أن يغير ما بنفسه، لا أحد منا يريد أن يضحي بشيء مما عنده لغاية سامية يبغي فيها وجه الله خالصا، فهاهي الدماء تسيل أكثر كما تسيل دماء الخراف التي تنتظرها موائد الطعام، والبشر بملايينهم انخرطوا في معارك سياسية يتقاتلون فيها ويعطلون مصالحهم، ويدفعون لتراجع مؤشرات التنمية وانهيار الاقتصاد الوطني في بلادهم، ثم ها هي الديمقراطية المنشودة تتعرض لانقلابات العسكر وكأنها صبية شهية طرية تتحول إلى لقمة سائغة لكل مشته وبشكل معيب. وهاهو الجوع والفقر في بلاد عربية وإسلامية قريبة ينخر في أساسات المجتمعات، ومجرد زيارة خاطفة لبلد كالأردن لك أن ترى خارج حدود العاصمة عمان بمسافة لا تتجاوز 30 كيلومترا مدى الفقر والحاجة التي يعاني منها السكان هناك، فهم أهل بادية لا يعرفون التجارة ولا الصناعة وغلاء المعيشة وضيق ذات اليد تقتل أحلام أطفالهم، ولعل المسافر الذي تحط طائرته في المطار الدولي قرب عمان يستطيع أن يرى من النافذة التجمعات البدوية شرق وجنوب المطار ليسأل نفسه كيف يعيش هؤلاء في هذه الصحراء، فما بالك بأبناء القرى البعيدة في جنوب وشمال البلاد؟! في المقابل فإن موازنة ما ينفقه العرب على السلاح والرصاص وأدوات الاقتتال فيما بينهم تعادل ميزانية تنموية قد تنقذ مئات الآلاف بل الملايين من السكان في البلدان العربية من الموت والفقر والأمية، وتنشر الوعي الفكري والديني الصحيح وتعيد إنتاج مجتمع واعد يستطيع خلال العقود القادمة أن يكون فاعلا في سوق العمل، ومبرزا في المجالات العلمية والصناعية والتنموية والاستكشافات في شتى المجالات، وأقلها أن يتمكن المواطن العادي من مساعدة نفسه في عيش كريم، وسط بيئة نظيفة خالية من التلوث المزدوج بيئيا وفكريا وسياسيا أيضا. في المقابل نجد أن الشهر الفضيل كان هو شهر المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، بل كانت معركة بدر هي الفتح الإسلامي الحقيقي الذي حمى قلعة الإسلام على أرضه، وتوالت الفتوحات، وانتشرت الدعوة السمحة، وساد العدل والتسامح وتراجعت نسب الجهل والفقر عند الرعية نتيجة العدالة والتكافل الاجتماعي والحرص على العلم والتعليم، وارتفعت مستويات الفكر الراقي أدبيا ودينيا وعلميا، نتيجة تحفيز القرآن الكريم والحديث الشريف للتفكير والقراءة والبحث، وسط بيئة متصالحة متآخية، رغم دخول الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين بعد أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فتن وصلت أوجها في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان سببها المجوس وخوارجهم الذين ما زال نسلهم ينفثون سمومهم في شرايين الأمة. رمضان هو حالة أكثر منه شهر كباقية الأشهر، فهو مرحلة يعيشها الإنسان وسط أجواء تدعو الشخص إلى مراجعة نفسه جيدا، قد يعيد فيها ترتيب أولوياته، ويتدارك أخطاءه وخطاياه، ويتراجع عن عنجهيته وظلمه لغيره، وما ينطبق على الشخص الواحد ينطبق على المجموع، فلا يمكن القبول بكل هذا الخلاف والاقتتال في بلاد المسلمين، أو الضعف والاستكانة والظلم الذي يعيشه ملايين المسلمين في شتى أقطار العالم خصوصا ما نشهده في شرق آسيا، التي يتعرض المسلمون فيها إلى شتى أنواع التمييز والقهر والإفقار، والقتل الجماعي حرقا وطعنا وتفجيرا من قبل جماعات تفكر بطريقة بهائمية وحشية وتحت غطاء رسمي من حكوماتهم، مقابل صمت مخجل من الدول العربية والإسلامية. في رمضان ندعو الله لكم، ولأمتنا العربية الإسلامية أن يقيض لها الحكم الرشيد الذي يعيد الماهية لشعوبنا ودولنا، وأن يحقن دماء أخوتنا في كل مكان، خصوصا في سوريا الجريحة من كل جانب، وأن يدحر عصابات الإجرام كلها، وأن لا يحقق لذلك النفر المريض أي غاية في تدمير مستقبل من تبقى من دولنا الشقيقة في الخليج وبقية الدول. وكل عام وأنتم بخير