13 سبتمبر 2025
تسجيلكم جميل أن يتلقّى المرء في يومه رسالة أو أكثر تحمل عبارة حب أو شكر أو تفاؤل أو أمل، غير أن ما يفوقها جمالاً هو ما جاء منها ضمنياً يتقاسمه السحر والمعنى، وليس أبلغ في هذا من كلامه عز وجل الذي ينفد مداده وإن كان بحراً ولا ينفد، والذي يُبطن من إعجازه معانٍ أخرى مع ما يظهر، فيستنبط القلب الذي أقبل عليه ما خفي من لطائفه وتدركه البصيرة.. وهكذا حصل مع هذا الكتاب ومؤلفه. فبينما يستعير المؤلف من خطيب العرب في الجاهلية (قس بن ساعدة الإيادي) اسمه، متيمناً بحكمته، فهو أدهم شرقاوي وحسب.. الكاتب الفلسطيني الذي ذاع صيته وهو بين أقرانه في الألفية الثالثة، حيث كتاباته واقتباساته واستنباطاته وآراءه التي جعلت منه مؤثراً فكرياً، وقد يكون ذلك من حيث لا يدري! لا غرو أن يكفيه هذا الكتاب تقديراً وكان حاضراً كما الملهم بين صناديد كتائب القسّام أمام خرائطهم التي استهدفت في رمضان الفائت وبكمين محكم -بين قلم وسواك وكتاب- وكر للأعداء. يقول الله عز وجل في محكم كتابه ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، غير أن من التذكرة ما لا يأتي بالضرورة في قول من زجر أو عظة، بل منها ما هو فطرة وانتباهة وخفقة قلب! لذا، يهدي المؤلف كتابه إلى من مرّت به جنازة فارتدع عن ذنب عزم على اقترافه، وإلى من مرض واعتبر وقد أراد بقوته من قبل ظُلم ضعيف، وإلى من أصابه الخذلان حين أفرط في ثقته بالناس فاتعظ، وإلى من ضاق صدره فتناهى لسمعه آية فانشرح.. وإلى كل من آمن برسائل الله التي تنزّلت من لدنه لتردّه إليه رداً جميلا. لذا، يستلهم المؤلف في كتابه (رسائل من القرآن) الصادر عن (دار كلمات للنشر والتوزيع) من بعض الآيات الكريمة مقاصد ظاهرة وخفية، ترغيباً وترهيباً. فلقد قصّ الله على نبيه ﷺ من الرسل وأخبارهم ما قصّ، في حين ﴿وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾، فلا انتقص من شأن أولئك الرسل جهل الناس بهم، والله وحده أعلم بفضلهم. لذا، لا ضير في إنكار الناس لامرئ وهو عند الله عظيم، إذ ان من مأثور الدعاء: (اللهم اجعلني مغموراً عند أهل الأرض مشهوراً عند أهل السماء). غير أن المدح والذم لا يقدمان شيئاً ولا يأخران، إذ ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾، وقد بلغ الإمام مالك بن أنس ثناء الصديق عليه ووقوع العدو فيه، فقال قانعاً ومتوجساً في آن: «ما زال الناس كذلك، ولكن نعوذ بالله من اتفاق الألسن كلها»، فيعقّب المؤلف بدوره قائلاً: «لقد استعاذ أن يمدحه الناس كلهم فيغتّر، أو يذمّه الناس كلهم فيكون فيه شيء مما قالوا».. وإن (إرضاء الناس غاية لا تُدرك)! يوصي المؤلف قارئه بالتيقّن أن «أقدار الله كلها خير وإن أوجعتك»، فمع حسرة الفرصة الفائتة والوظيفة المفقودة والصديق الغادر والحبيب الخائن، له أن يردد ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا﴾، فما أخذ الله إلا لحكمة وما أبقى إلا لرحمة، فإن لمس رحمته فليشكر وإن جهل حكمته فليصبر، وهو يقول ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وما أدراك؟ لعل ما أهمّك فقده هو استجابة لدعاء (واصرف عني برحمتك شر ما قضيت) كنت تردده. «غداً أتوب.. غداً أضع برنامجاً للقراءة.. غداً أتبع حمية غذائية».. ولأن الموت لا ينتظر أحداً وأن الإنسان يغريه طول الأمل، فترى الغد يأتي عليه ولم يُصب من الخير الذي انتواه شيئاً، كما أن الذي لا يزال يعتقد أن أمد الموت بعيد، فليعلم بأن «هذا ما كان يعتقده الذين ماتوا منذ دقيقة»، فالتأخير قد يكلّف الإنسان عمراً بأكمله. وكما أنذر الرسول ﷺ أبا ذر بـ «إياك والتسويف بأملك»، يذكّر المؤلف بالرسالة المنطوية في آية ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ثم أقول: لم يزل رأي الإمام الشافعي حصيفاً في البحر الذي يستقر الدرّ في قاعه بينما يعلو سطحه الجيف! وكذلك تلك الإصدارات التي يتبّع فيها بعض بنو العرب الفرنجة في تصنيفها بين تنموية وتحفيزية وتطويرية وهي ليست في مجملها بالضرورة كذلك.. في حين تأتي هذه الرسائل القرآنية تحيل الوحي الإلهي إلى دستور عمل، يهذّب الخلق القويم ويحفّز الأخذ بسير الأولين وينمّي العزم بالمضي على الصراط المستقيم.. فحريّ بهذه الرسائل أن تتصدّر! وفي الختام، عود على ذي بدء في الذكرى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.