17 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ وضع كرومر منذ مائة عام ونيف خطته الجهنمية لإبعاد المصريين عن دينهم، بدأ بتهميش مقرر التربية الدينية في المناهج والخطط الدراسية، وانتهى الأمر بما يظهر حاليا في واقع مجتمعنا المصري الآن، وما يعانيه الشباب من تخبط فكري، وتمزق نفسي، واستعداد للاستقطاب هنا وهناك. وهذا الواقع المأساوي يجعل من أهم واجبات وزارة التربية والتعليم – تماشيا مع أهداف ثورة يناير من الشفافية والوضوح - أن تُعيد النظر في سياستها المتبعة منذ مائة عام في تدريس التربية الدينية، فالذي لا شك فيه أن هناك علاقة ما، بين التخصص العلمي من جهة، والثقافة الدينية من جهة أخرى، فأكثر الشباب الذين يتحمسون للدين، ويتمسكون بظواهر النهوض، ويلجأون إلى الحدّة في الفهم، والشدة في التعبير هم أبعد الشباب عن دراسة الدين دراسة عميقة، وأكثر المتشددين -كما نلاحظ- من دارسي الطب والهندسة والعلوم الطبيعية، وقلّة قليلة جداً منهم من الأزهريين أو من دارسي العلوم العربية والشرعية، ونحن نمرّ بهذه الظاهرة دون أن نُوليها ما يليق بها من الاهتمام والتأمل. إن واقع التربية الدينية في مدارسنا بدءاً بمعلمها ومنهجها ومروراً بطرائق تدريسها، ومكانها من الجدول الدراسي، وانتهاء بكيفية الامتحان والنجاح فيها.. كل ذلك يضعنا أمام حقيقة يندى لها الجبين، وهي أن الواقع أليم كل الألم، قبيح غاية القبح، فظيع أشد الفظاعة، فمعلّم التربية الدينية هو نفسه معلم اللغة العربية المُثقل أصلاً بفروع كثيرة هي: النحو، والقراءة، والنصوص والبلاغة والإملاء والتطبيق والخط والتعبير وتاريخ الأدب.. فهو يقوم بما يقوم به عدة معلمين، وهو المثقل إلى جانب ذلك بالإذاعة المدرسية، والصحافة المدرسية، وجماعة المسرح، وجماعة التمثيل والغناء، وربما الرحلات في بعض الأحيان، فأي هذه الهموم أحقّ بالإهمال؟! يشهد الواقع أن هذا المعلم إن أراد أن يتخفف من شيء، فإنه يتخفف من الدين اتكالاً على الأسرة واعتماداً على دور العبادة ووسائل الإعلام التي تقدم الدين للناس، كما تراه هي، لا كما يريدونه هم. والمعلم حين يفعل ذلك يجد من الناظر عوناً كبيراً، فالنظار بطبيعتهم يضعون حصص الدين آخر اليوم المدرسي حتى إذا أراد الطلاب "التزويغ" من المدرسة، لم يجد الناظر حرجاً في ذلك، لأنه يرى الحرج كل الحرج في أن يقصر الطلاب في الهندسة أو الجبر أو اللغة الأجنبية، ومعلم الجبر والهندسة إذا قدم للمدرسة نتيجة امتحان مادته وكانت خمسين بالمائة لم يستطع الناظر أن يلفت نظره إلى انخفاض نسبة النجاح، ولكن معلم الدين إذا قلت نسبة النجاح عنده عن مائة بالمائة فإن الناظر يستنكر، والوكيل يشجب، والمعاون يحتج، والمراقب يُدين، والمُوجّه يتهكم، والمدير العام يرفض، والمعلم بين هذا كله يضحك ثم يرفع النسبة "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". والمعلم حين يفعل ذلك لا يستشعر في نفسه إثماً؛ لأنه لم يوفِ هذه المادة حقها من التدريس، ويذكر في نفسه أنه كان يستغل حصة الدين لتصحيح كراسات الإملاء والتعبير والتطبيق والخط مرة، ولمراجعة دروس النحو والصرف مرة ثانية، قبل مرور الموجه، وليلحق بالمنهج الطويل في حصص النصوص مرة ثالثة، وهو لا يستشعر في نفسه ذنباً لأنه يعلم أنه هو نفسه لا يحفظ إلا الآيات التي يطلب من الطلاب تكملتها في الامتحان؛ لأنه لم يكلف بحفظ شيء من القرآن في الجامعة، فبرامج إعداد معلم اللغة العربية في كليات التربية والآداب لا تتضمن أن يحفظ الطلاب شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف، بل إن الإملاء وطرق الكتابة والخط وهي من أهم أدوات معلم اللغة العربية ليست مما يدخل في برنامج إعداد معلم العربية في الجامعات المصرية اللهم إلا إذا تطوع أحد الأساتذة وأشار إليها في ثنايا مقرراته من أجل ذلك كله ينشأ ناشئ الفتيان من شبابنا، وهو ينظر إلى الدين نظرة خاصة، فالدين هو مادة نجاح ورسوب، كما تقول وزارة التربية والتعليم إذا خاطبت الناس في الصحف والتلفزيون، ولكنه مادة نجاح إجباري كما تعلم وزارة التعليم إذا خلت إلى نفسها، والدين في نظر فتياننا مادة يسيرة الدرجة إذا قيست بالجغرافيا، ويسيرة النجاح إذا قيست بالفيزياء والجبر، ويسيرة التدريس إذا قيست بالكيمياء والمنطق والنحو، وحصتها آخر الحصص ينتهي إليها الفتيان بعد أن يتسرب إليهم الكلَل والملَل طوال يوم دراسي شبعوا فيه صياحاً ولعباً وتحصيلاً، فما الذي يجعلهم يهتمون بمادة هذه شأنها؟! ومن جهة أخرى يتلقف هؤلاء الفتيان كلماتٍ يسمعونها من طرق خفية تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم ينكرون بينهم وبين أنفسهم كثيراً مما يرون داخل بيوتهم وخارجها، وتستفز مشاعر المراهقة فيهم مسلسلات يومية وأفلام شبه يومية تداعب فيهم أحطّ الغرائز وأدناها، فهم بين سبيلين لا ثالث لهما: إما الاستسلام للانحراف أو الاستسلام للتشدد ضد الانحراف وليس لديهم في كلتا الحالين: خط دفاعي ديني" يمنحهم القدرة على الصمود والتصدي ويعصمهم من الزلل إلى أحد السبيلين. والذي نراه خلاصاً من هذا الانهيار المتتابع أن تنهض كليات الجامعات بإعداد معلم مختص بالتربية الدينية دون سواها، وأن ترفع الوزارة درجة الدين، وأن تكون حصص الدين كغيرها من المواد الدراسية، وأن يكون الامتحان فيها جاداً لا هازلاً، وأن تكون نتيجتها جادة لا هازلة، فلم يعد المجتمع قادراً على تحمّل المزيد من هذا الهزل.