10 سبتمبر 2025
تسجيليقول ابن خلدون رحمه الله " جمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله تعالى، وإن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق وأقبلت على الله تعالى اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقلّ الخلاف، وحَسُنَ التعاون والتعاضد، واتسع نطاق جمع الكلمة لذلك فعظمت الدولة " بتصرف العمل الجماعي علامة على قوة المجتمع يتحدث ابن خلدون رحمه الله تعالى عن مبدأ أساس لنهوض الحضارات وبنائها، مبدأ أجمعت عليه الدنيا كلها، قديماً وحديثاً، ألا وهو مبدأ العمل الجماعي، الذي يعتبر أحد مؤشرات القوة في أي مجتمع، ودلالة على الوعي والنضج الذي يتمتع به أفراد ذاك المجتمع. إن قوة المجتمع المدني تكمن في قدرته على استيعاب مختلف الأطياف والتوجهات والأفكار، وتوجيهها باتجاه واحد يحقق مصالح الناس، بما لا يتعارض مع شرع الله تعالى، والتجمعات البشرية في أي مجتمع تكون نقطة قوة إذا استوعب الناس مبادئ العمل الجماعي، والعمل بروح الفريق الواحد، وإلا كانت تلك التكتلات نقطة ضعف، لأن الخلاف والتناحر والتنافس غير الشريف سيدبّ بين أفرادها. - قاعدة ذهبية في العمل الجماعي " نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " هذه القاعدة من القواعد الفكرية التي كوّنت رؤيتي للعمل الجماعي، وهي كلمة لـ " محمد رشيد رضا " رحمه الله، ونقلها عنه الإمام الشهيد " حسن البنا " رحمه الله، فهي ليست من كلماته، كما يظن البعض. هذا القول الجميل يشير إلى أهمية التعاون في القضايا التي عليها اتفاق، فلا خلاف فيها، وفي المقابل أهمية الإعذار في القضايا التي نختلف فيها، وقد هاجم بعض الدعاة والعلماء هذه القاعدة، واعتبروها مدخلاً لإفساد الدين، وقالوا: لا مجال للتعاون بيننا وبين من خالفنا. ولو أنهم رجعوا إلى كتب السياسة الشرعية، وأمعنوا فيها النظر، لتبين لهم خطأ فهمهم، وخطورة فتاواهم، لأن بديل الحوار والإعذار هو التدابر والتناحر والتهاجر، وهذا ليس مما يدعو إليه الإسلام، لأن فلسفة الإسلام قائمة على الاستفادة من كل الطاقات والجهود الممكنة. متى يعذر بعضنا بعضاً " يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه "هذا الجزء من القاعدة هو الذي أثار حفيظة بعض العلماء والدعاة، فشنعوا على الآخذين بهذه القاعدة، لأنهم ظنوا أن الإعذار سيصل إلى الثوابت والمسلمات في ديننا، كقضايا الإيمان والتوحيد، ففهموا أننا سنرى الكفر البواح ونقض معالم الدين ثم نتجاوز عن ذلك من باب إعذار الآخرين، ولا أظن أن مسلماً عاقلاً سيرضى بهذا الفهم السلبي. لا أحد ينكر أن اختلاف الآراء والعقول سيبقى في هذه الأمة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا أظن أن أحداً يزعم أنه قادر على جمع كلمة الأمة على رأي واحد، والعاقل يكفيه قول ربنا تبارك وتعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) هود/119 أما من أراد الجدال ومخالفة العقل والنص، فلسنا له من المجادلين، لأن الجدل آفة تقسّي القلوب، وتمنع العمل، وتُذهب البركة. - حالات ينبغي فيها الإعذار لكني أقول في بعض الحالات لا بد أن نعذر من نختلف معهم، إذا لم نقم عليهم الحجة، ولم تبلغهم الأدلة، وكانوا في جهل، فكيف لا أعذر الكثير من الأمريكيين، الذين تشير الإحصاءات إلى أن (2%) فقط هي نسبة من سمعوا عن الإسلام من المسلمين أنفسهم، أما النسبة العظمى فقد سمعوا عن الإسلام من الإعلام، الذي يقدمه على أنه دين الدم والإرهاب والتفجير والإجرام. هذا لا يمنع أن تكون هناك فئات لا نعذرها، ولا نقبل العذر منها، خاصة من أقيمت عليهم الحجة، وبلغهم الإسلام بصورة النقية الصافية. وإني أطرح على من خالفني السؤال التالي كمدخل لإعادة النظر في المسألة، لو تقدمت إلينا إحدى المنظمات الدولية (غير المسلمة) بمشروع يهدف إلى حماية البيئة من الملوثات، أو يحارب ظاهرة الإجهاض، هل يحرم التعاون معهم في هذا المجال..؟ * مبادئ أساسية في العمل الجماعي عَنْ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ ((مَثَلُ الْقَائِم عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)) البخاري من هذا الحديث الشريف نستنتج مبادئ أساسية في العمل الجماعي: (1) حرية منضبطة الحرية الشخصية مطلوبة ومسموح بها، ولكنها ليست حرية مطلقة بلا قيود، لأن المجتمع لا يخلو من السفهاء أصحاب العقول الصغيرة، وسذج أصحاب قرارات متهورة، ومثل هؤلاء نقيّد من حرياتهم، ونأخذ على أيديهم ونمنعهم، قياساً على من كان في أسفل السفينة. (2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مزايا العمل الجماعي، وأحد مظاهره التطبيقية، فليس من الإسلام أن نرى المنكر والخطأ ثم لا نسعى إلى تغييره أو التخفيف منه، لأن غاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو نشر الفضيلة وحفظ المجتمع من الرذيلة. (3) للجميع حق في المال العام لا يمكن لفرد أو حكومة أو سلطة أو جهة مهما كانت أن تستفرد بأموال الأمة ومقدراتها، لأن كل فرد في المجتمع له سهم في هذه المقدرات، ونصيب من تلك الخيرات، مهما قلّت أو كثرت، وبأي حقّ يتصرف بعض الأفراد بمقدرات أمة كاملة، وأموال شعب بأكمله..؟! (4) العمل الجماعي يحقق الأهداف العمل الجماعي من أكبر الأسباب المعينة على تحقيق الأهداف، فلولا العمل الجماعي المتحد لم تصل السفينة إلى وجهتها المتفق عليها، لأن الأمر إذا تُرك لاجتهاد الأفراد فهناك من سيجرها يميناً ويساراً، والنتيجة أن الضرر سيلحق الجميع، والدمار سينال من الكل. (5) مسؤولية جماعية في العمل الجماعي الكل يتحمل الضرر إذا وقع، فلا شكّ أن من كانوا في أسفل كانوا يعانون إذا أرادوا أن يحضروا الماء، فكان لزاماً عليهم أن يتحملوا الضرر الخاص الواقع بهم، من أجل دفع الضرر العام، لأن النجاة تكون للجميع، والهلاك يكون كذلك للجميع. الفردية من مقومات الحضارة الغربية العمل الجماعي من مقومات الحضارة الإسلامية، وهذا على النقيض من الحضارة الغربية التي تقوم على مقومين رئيسين: الأول: الفردية (individual) الثاني: المادية (Material) فالفرد في الحضارة الغربية يفعل ما يشاء في حدود ما يسمح به القانون، ومن آثار الفردية ونتائجها أن الأسرة بعد سنٍ معينة لا سلطة لها على الفرد، فمن حقّه أن يستقل ويفعل ما يريد، ومن آثارها كذلك أن أهداف الدولة والمجتمع تدور حول كيفية إسعاد الفرد كفرد مستقل، وليس كفرد ينتمي إلى مجتمع متضامن ومتكافل، وهذه فلسفة تخالف وتناقض فلسفة الإسلام التي تعطي وتصون حقوق الأفراد، ولكن تطالبهم بحقوق الجماعة (الأمة).