14 سبتمبر 2025
تسجيللا شك ان الدولة لها سلطة ممارسة اختصاصها الجنائي في مواجهة الاشخاص المتواجدين على اقليمها، وايضاً بالنسبة للجرائم التي ترتكب داخل حدود إقليم الدولة. لذلك فإن مدى الاختصاص الاقليمي يتسع بنفس اتساع فكرة سيادة الدولة وأي استبعاد او تقليص فكرة الاختصاص القضائي إنما هي عكس القرينة التي تفرض على ان الدولة ذات السيادة لها من الاختصاص القضائي الكامل على اقليمها لا ينازعها بذلك منازع، لذا فإن أي قيود يجب ان تقدر بقدرها، حيث ان تلك القيود انما جاءت نتاج القانون الدولي العرفي او ربما المعاهدات او مبادئ القانون العام المعترف به في بعض القوانين الحديثة، فالقانون الدولي العرفي مثلاً قد استبعد او قلص من ممارسة الاختصاص القضائي على الاقليم في الحدود التي تقتضيها المصالح بين اعضاء الجماعات الدولية لذلك ترى ان من نتائج هذه المصالح الدولية بروز وظهور ونمو الحصانات والامتيازات الدبلوماسية وما يؤكد ذلك ويرسخه ابرام المعاهدات الثنائية أو متعددة الاطراف بين الدول المختلفة. وعندما تعددت الاراء والتساؤلات عن التكييف القانوني للحصانة الجنائية والتي يتمتع بها المبعوثون الدبلوماسيون تركزت على هؤلاء الدبلوماسيين الذين لا يسألون جنائياً عما يرتكبونه من افعال ترتقي الى مستوى الجرائم في تشريعات القوانين الدول المعتمدين لديها، وعندما جاءت فكرة هذه القاعدة في ظل القانون الدولي العام تبنتها التشريعات الجنائية للدول لذلك جاءت الاسئلة القانونية عن التكييف القانوني لحصانة هؤلاء الدبلوماسيين. الرأي الأول: يرى اصحاب هذا الرأي ان الحصانة الجنائية التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي هي حصانة قضائية يترتب عليها تعطيل حق الدولة في تحريك الدعوى، ويؤخذ عليه ان من شأنه التقليل من قيمة الحصانة التي يتمتع بها هؤلاء الدبلوماسيون كما ان طبيعة هذه الحصانة هي اتصالها بقواعد قانون العقوبات لا بقواعد قانون الاجراءات الجنائية. الرأي الثاني: يرى اصحاب هذا الرأي ان اصحاب الحصانة الجنائية لا تتوافر لديهم الأهلية الجنائية، ويؤخذ عليه ان ذلك يساوي بين هؤلاء الدبلوماسيين وبين من ليست لديهم إرادة أو إدراك أو تمييز أو فاقدي الاهلية او عديمي الاهلية او ناقصي الاهلية او ذوي العاهة العقلية. الرأي الثالث: يرى اصحاب هذا الرأي ان الحصانة الجنائية مثل الشرط السلبي في كل قاعدة جنائية ومثال ذلك انه يشترط لوجود الجريمة الا يكون الجاني متمتعا بالحصانة الجنائية، ويؤخذ على ذلك انه بمثابة خدعة قانونية يتم بهذه الخديعة تحميل القواعد الجنائية ما ليس بأصلها او طبيعتها. الرأي الرابع: يرى اصحاب هذا الرأي ان ما يصدر من قبل الدبلوماسيين الذين يتمتعون بالحصانة بمثابة أفعال تخرج عن طبيعة القانون الجنائي وان من الممكن مساءلة هؤلاء الدبلوماسيين مدنياً وليس جنائياً وذلك عن كل ما يصدر منهم من افعال تنطوي تحت مظلة الجريمة في القانون الجنائي، ويؤخذ عليه انه لو اعتبرنا ما صدر عن الدبلوماسيين الذين يتمتعون بالحصانة فعل غير مشروع وخارج نطاق القانون الجنائي وبإنه مجرد مسؤولية مدنية فهذا معناه ان من يسأل مدنياً يمكن ان يلام بشق التكليف الخاص بالقاعدة الجنائية دون ان يتحمل شق الجزاء. الرأي الخامس: يرى اصحاب هذا الرأي ان الذين يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية لا يقع على مسؤوليتهم سوى التزام سياسي أو ادبي فقط مضمون هذا الالتزام احترام القوانين الجنائية، ويؤخذ عليه ان هذه ليست حجة ولا يكفي لتبرير هذه الحصانة. الرأي السادس: يرى اصحاب هذا الرأي إلى تكييف الحصانة الجنائية على انها مانع من موانع العقاب وانها سبب يتعذر معه امكانية تطبيق الجزاء وهذا هو الرأي السائد في ايطاليا، وتبرير هذا الرأي انه اذا كانت القاعدة الجنائية لا تسري على هؤلاء الدبلوماسيين المتمتعين بالاعفاء فليس معنى ذلك انه لا توجه اليهم خطابات ولكن هنا فقط الجزاء في تلك القاعدة هو الذي لا يعتبر موجها إليهم بينما شق التكليف يبقى موجها اليهم. الرأي السابع: يرى اصحاب هذا الرأي ان تكييف الحصانة الدبلوماسية على انها قيد يرد على وجوب العمل بالقاعدة الجنائية لكل من يتواجد على أقليم الدولة من افراد، ووجهة نظر اصحاب هذا الرأي هو ان المادة (3) من قانون العقوبات في ايطاليا تنص على ان يخضع لقانون العقوبات الايطالي كل من يقيم على إقليم الدولة سواء كان مواطن أو أجنبي ما لم ينص القانون باستثناء يقرره القانون الداخلي أو القانون الدولي. رأينا القانوني بذلك: نرى ان المبعوث الدبلوماسي يتمتع بحصانة جنائية تعفيه من الخضوع لقضاء الدولة المعتمد لديها طوال مدة عمله فيها، وليس هدف هذا الاعفاء تحرر المبعوث الدبلوماسي من التقيّد بالقوانين الخاصة بالدولة المعتمد لديها فاحترام قوانين وتقاليد واعراف ونظم هذه الدولة في مقدمة الواجبات المفروضة على المبعوث الدبلوماسي، وان الضمانات المقررة له هي في سبيل المحافظة على استقلالة ولا يجوز ان تتحول الى ترخيص له بمخالفة القوانين، فإذا اعتبرنا هذا الدبلوماسي بأنه مستقل فليس له الحق في ان يفعل ما يشاء بل يجب عليه ان ان تكون افعاله وتصرفاته في حدود القانون والانظمة وعادات الدولة الذي يمارس فيها مهام وظيفته الدبلوماسية. وقد اكدت ذلك المادة (41) الفقرة (1) من اتفاقية فيينا حيث نصت على ان: "دون اخلال بالمزايا والحصانات المقررة لهم على الاشخاص الذين يستفيدون من هذه المزاياوالحصانات واجب احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمد لديها". وعدم خضوع المبعوث الدبلوماسي للقضاء الاقليمي في الدولة التي يمارس فيها مهام وظيفته لا يعني إفلاته من سلطان القانون إذا هو ما تجاوز القانون، وامتناع محاكمته او مقاضاته عن تصرفاته واعماله، فهو بلا شك يظل خاضع لقانون وقضاء دولته وبالتالي يمكن مساءلته امام محاكمها اذا امتنع على قضاء الدولة الموفد اليها نتيجة للحصانة القضائية، وقد نصت على ذلك صراحة الفقرة ( 4 ) من المادة ( 31 ) من اتفاقية فيينا حيث نصت على ان: "الحصانة القضائية التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها لا تعفيه من الخضوع لقضاء الدولة المعتمدة". لذا فإننا نرى ان الحصانة الجنائية بالنسبة للمبعوث الدبلوماسي انما تعني عدم امكان محاكمته امام محاكم الدولة المعتمد لديها، فهو ملزم باحترام قوانين الدولة المعتمد لديها ومنها القانون الجنائي، وما في الامر إلا ان محاكم الدولة المعتمد لديها لا تختص بالنظر فيما يرتكبه من مخالفات لهذا القانون، فالمسألة انما تتعلق بالاختصاص القضائي وعلى هذا فإننا لا نقر من ان المبعوثين الدبلوماسيين مخاطبون بالقواعد الجنائية التي تصدرها دولتهم دون غيرها من القواعد فإن احترام القاعدة الجنائية شي وكيفية العقاب على مخالفة تلك القاعدة شي آخر ويؤيد ما اقول ما نشهده اليوم من تجاهل كثير من الدول لهذه الحصانة الجنائية. لذلك هناك تلازم بين الامن القومي للدولة وبين سبادة الدولة، فحق الدولة في الحفاظ على امنها الداخلي هو مظهر من مظاهر سيادة الدولة. ولا يعد ضرورة مشروعة فحسب، بل هو عنصر لا تتحقق الدولة بدون وجوده، لذا فإن كافة الدول تحرص على حماية أمنها القومي بتخصيص أجهزة معينة يناط اليها حماية الامن القومي للدولة، وتختلف تنظيمات تلك الاجهزة من دولة الى اخرى على النحو الذي بيناه. ولا يقتصر حق الدولة في حماية امنها القومي بالنسبة لمواطنيها فحسب بل ايضاً بالنسبة لعلاقاتها الدبلوماسية واتصالات البعثة الدبلوماسية بسلطات الدولة المعتمدة لديها وقطع العلاقات الدبلوماسية وتنقلات اعضاء البعثات الدبلوماسية في اقليم الدولة المعتمدين لديها، ومن ثم فإن الأمن القومي للدولة يلعب دوراً بارزاً في رسم إطار الحصانات والامتيازات، وهذا ما بحثت عنه للاجابة على التساؤل عن أثر الأمن القومي على الحصانات والامتيازات التي يتمتع بها المبعوثون الدبلوماسيون. مستشار وخبير قانوني [email protected]