12 سبتمبر 2025

تسجيل

إعادة تشكيل العالم الجديد

08 سبتمبر 2020

في ستينيات القرن العشرين اندلع في إيرلندا الشمالية صراع عرقي وقومي كان أساسه سياسيا، حيث أراد القوميون الإيرلنديون أو الجمهوريون، – ومعظمهم من الكاثوليك – فقد أرادوا أن تغادر إيرلندا الشمالية المملكة المتّحدة وتنضمّ إلى إيرلندا الموحّدة، بينما كان رأي الاتّحاديّين أو الموالين الأولستريّين – الذين كانوا بمعظمهم من اتباع مذهب البروتستانت – أن تبقى إيرلندا الشماليّة داخل المملكة المتحدة. مع بدء مظاهرات القوميين التي قابلتها شرطة الاتحاديين بالعنف تصاعدت الأعمال حتى تدخل الجيش، وكان الظن أنه حيادي، لكنه وقف مع الاتحاديين الأمر الذي دفع بالنزاع إلى أن يتحول لطائفي عرقي، فأنشأ الاتحاديون (الكاثوليك) منظمات مسلحة دخلت في حرب لثلاثة عقود. هذا النزاع الذي خلف آلاف القتلى، وانتهى في عام 88 تحول من نزاع سياسي إلى نزاع طائفي عرقي كبير خلف آثاراً مدمرة تعيش إلى اليوم. هذا الصراع اليوم نجده يشتعل في الخليج اليوم، أو في النزاع الكردي المستمر في منطقتنا العربية، والصراع التركي اليوناني الذي يشتعل بين حين وآخر وغيره من الصراعات العالمية. يرى كثير من المفكرين أن الحاجة المستمرة لصناعة الأعداء هي التي تساعد الأمم القوية على الاستمرار، فهي من خلالها تظهر قوتها، ومن خلالها أيضا تزيد من بسط سيطرتها على القرار في هذه الدول، ومن جانب آخر (وهذا ما تستخدمه الديكتاتوريات والدول الأمنية) تساهم في زراعة الخوف في قلب الشعب وخلق حاجة للأمان الذي يقابلها تخصيص الميزانيات العسكرية الضخمة أو تضليل الشعوب من أجل أهداف سياسية. يرى فولكان مؤلف كتاب الحاجة لصناعة الأعداء والحلفاء،أننا نرى في مرحلة النمو المبكر من حياتنا إلى أن نفصل العالم إلى ما هو حسن وما هو سييء، ثم نقوم بإسقاط الجوانب التي لا نحبها في أنفسنا، أو ما نجده غير مقبول فينا، على الآخرين، لذا فإننا عندما نسخط على أعدائنا فإننا لا نسخط عليهم فقط، وإنما على ما لا نحبه في أنفسنا، ومن هنا فإن الأعداء يخدمون غرضاً مهماً وإن كان لا شعورياً، فالغضب والنقمة اللذان نشعر بهما نحو الآخرين يخلصاننا من الغضب والنقمة التي نشعر بهما بإتجاه أنفسنا. والحقيقة أن الأزمة الخليجية ولدت اليوم هذه الحالة من الصراع الذي قد يستمر لسنوات، فلو عدنا للأزمة الإيرلندية لوجدنا أن أساسها بدأ في العام 1609، لكنها لم تندلع إلا عندما تم دفع المجتمع للصراع العرقي والطائفي من أجل أسباب سياسية، وهو ما يحدث حالياً، حيث إن المجتمعات الخليجية دفعت في الصراع السياسي إلى كل نوع آخر من الصراع، صراع البقاء، الصراع الاجتماعي والاقتصادي والفكري والثقافي والديني، وحده الطائفي الذي لا يزال نائما؛ نظراً لطبيعة الدول المحاصرة لنا. إن العالم اليوم يتحول إلى كانتونات ستخلق صراعات جديدة مستمرة لعقود، يذكي هذه الصراعات كل شيء، لا أخلاق فيها ولا رؤية لحجم الخسارة، لذلك باتت الحاجة إلى حلفاء مهمة أكثر من ذي قبل، وباتت الحاجة إلى توصيف واضح ودقيق للأعداء، وأصدقاء الأعداء أكثر إلحاحاً لمعرفة طرق وكيفية المواجهة المحتملة. لقد كان العالم في حالة من التنافس الشديد على الهيمنة الدبلوماسية على الدول والمنظمات الدولية، لكن الإبقاء بات سمة مشتركة للعبة الدولية اليوم، ولم يعد الإقصاء مرتبطاً بالعلاقات الثنائية، بل أصبح يشمل الدول التابعة سياسياً، او الدول الخاضعة اقتصاديا، ولهذا نرى مثلاً كيف أن العالم خضع للقرار الأمريكي بحصار إيران لسنوات تحت سلطة القوة السياسية والهيمنة الدبلوماسية أحياناً أو العقوبات الاقتصادية، وكيف أن كثيرا من الدول لاحقاً استخدمت بوابات خلفية للتجارة مع إيران كان أغلبها في الإمارات التي لعبت دوراً مؤثراً في تخفيف تأثير العقوبات على إيران عبر التجارة غير الشرعية وشركات وهمية أو عابرة للقارات. الموقف نفسه كان يجب أن يتخذ في حصار قطر حيث كانت هناك محاولات كبيرة لصنع إقصاء جماعي لقطر من خلال ضم دول كثيرة والضغط عليها سياسياً أو اقتصادياً أو حتى بتأشيرات حج وعمرة، ولكن الخطة الفاشلة لم تنجح، لكنها بالتأكيد قابلة من دول الحصار للمراجعة والاستخدام في المستقبل بشكل أكثر دقة.. وخطرا. علماء النفس السياسي كانوا يظنون بأن نظرية الشخصية التسلطية انتهت في الستينيات، ولكن للأسف في هذه الأيام نشهد عودة قوية لها خاصة في فرعها الأسوأ "العدوان التسلطي" والذي يشير إلى العدوان إلى الجماعات الخارجية، ولنا في ترامب خير مثال، حيث أصبح يعادي جماعات خارجية، بل وتمادى واعتبر بعض الجماعات في مجتمعه "خارجية" وبنى سياسته وفوزه على معاداتها. العالم يعاد تشكيله، وهذا واقع علينا الاعتراف به والتعامل معه، من ثنائي القطب بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، إلى أحادي القطب الأمريكي، إلى عالم يتشكل قد يكون ثلاثيا أو رباعي القطب، أو قد يضطر العالم للتشابك لخلق كانتونات جديدة، وربما دول. المشكلة الوحيدة في صناعة الأعداء دائماً، أن الدول الذكية تصنعها، وتدفع الدول التي تدار بجهل للقيام بأفعالها الشنيعة وتحمل تبعاتها اللاحقة. [email protected]