29 أكتوبر 2025
تسجيليحدث في بعض الأحيان أن يتوارد الناس ألفاظا معينة و يتداولونها فيما بينهم وغالبا ما تتخذ صفة السخرية وتكون متعارفا عليها وليس لها قياس محدد ولا معنى بالشكل الدقيق، بل هي أوصاف تعبر عن مدى سخافة من يطلقها على سبيل التندر والتهكم مع سبق إصرار الواصف على عدم خروجه عن حدود اللباقة واللياقة أي أنه يتصور في قرارة نفسه المنسلخة من تلك الصفتين أنه لم يستخدم التجريح الصريح أو السب العلني بكلمات قد تؤرق ضميره، وتدخله في حسابات الإثم ليتوارى خلف هذه الكلمات المبهمة للالتفاف على الإحساس بالذنب. وأقرب وصف لهذه الفئة هي (وين أذنك يا حبشي)، وتنشأ هذه الكلمات الدارجة للتخفيف بغية الترويح عن النفس، بصيغة أقل حدة من الوصف الصريح؛ وبالتالي فإن تداولها لا يترك أثراً بالغاً في النفس، طبقاً لتعاطي هذه العبارات بكثرة وعدم اكتراث، وهي أشبه بمن يأكل الكراث ويتجشأ أمام الآخرين غير مبال بالأذى الذي تسببه غازاته المسيلة للدموع، والمثيرة للاشمئزاز، معتقداً أن دمه أخف من قيمة الأسهم هذه الأيام، بينما تجد الآخرون يتصنعون الابتسامة على مضض آملين في الوقت ذاته بأن (يوريهم عرض أكتافه) وبأقصى سرعة ممكنة. وعلى ذكر السرعة، وهي سيئة في كل الأحوال، إلا في حالة صاحبنا سالف الذكر، ولم أقل سيئ الذكر؛ لأن الكراث من الخضراوات المفيدة، وذو منافع وصحي ولذيذ، ولكن أردت التشبيه وتفنيد الاعتقاد بأن هذه الكلمات بريئة وهي تنوء بالفحش وإطلاق العبارات خلف ستار التهكم والسخرية الفجة من خلال استسهال إطلاقها، وكأن مطلقها لا يدرك أنه نسف شخصية بكاملها ونفاها في جزر (الواق واق) وكم أتمنى زيارة هذه الجزر ولا أدري أين تقع، أن تهميش قيمة الإنسان بهذه النبرة الفوقية والتعالي لا يلبث أن يسهم في صياغة نماذج بائسة تتكئ على هدم القيم الخلاقة، وتصول وتجول وكأن البشر عبارة عن مواد استهلاكية، شأنهم في ذلك شأن (الشاورما بالكاتشب أو من دون لا يهمّ) طالما أنها ستشبع نهمه الفارغ من الكياسة والأدب. وحينما يتهيأ هذا الفراغ، وهذه المساحة الخالية من ذكر الله ومخافته، فلا غرابة أن تتفشى مثل هذه الكلمات الفارغة من المحتوى والمضمون، والتي تسيء إلى الآخرين من انتقاص وازدراء ونحو ذلك، وتقبع في مؤخرة الركب أيضاً كلمة لا تقل خبثاً من تلكم الكلمات هه (ل ك عليه) وهي أيضاً تتستر خلف هذا الغطاء المثقوب، وتعني أن الشخص الموصوف عليه مآخذ، ولكن يصعب تحديدها، ويجرّ هذا الغموض كثيراً من التساؤلات والشكوك إزاء الموصوف، وفي إطار الهمز واللمز تبرز أيضاً كلمة (لزقه) وهو اللحوح واللجوج الذي يصرّ على مقابلة شخص آخر ويلح عليه في تحقيق طلبه، مع عدم مراعاة ظروف المقابَل، وربما يفهم المقصود إلا أنه يتجاهل، وهذا التجاهل يدرجه بشكل تلقائي في قائمة (جونسون عفوا لزقه). ومن جانب آخر أيضاً يبرز كلمة (الغثيث)، وهي مستقاة من الغث وليس المقصود انتفاء القيمة، بل إنها محورة، ومعدلة إلى التعبير عن الهمّ والغمّ؛ كأن يقال (غثني)؛ أي جلب لي الهمّ والغمّ. وكل هذه الكلمات المتداولة تتم في الغالب بصفة تلقائية وعن غير قصد الإيذاء المباشر، إلا أنها في الواقع مؤذية بدرجة كبيرة؛ إذ إن المتلقي سيحدد وفقاً لهذا الهمز واللمز، رؤية عن الشخص، وسيبنى التصور قياسات قد لا ترتبط بالواقع، بقدر ما تسهم الآثار المنبثقة من إطلاق الكلام جزافاً، وبهذه الصيغة من تنافر وتباعد وولوغ في الأخطاء التي تكرس الفرقة والشتات، في حين أن المشاعر النبيلة والأحاسيس الصادقة، أصابها القحط والجفاف. وبعيداً عن التنظير وتحليل هذه المعطيات دعونا نبحث عن حلول عملية في حين أن الحرص على ترشيد استعمال هذه الكلمات أو على الأقل استبدالها من الأهمية بمكان ؛ فكلمة (ابن حلال مصيف أو مشتي سيان)ستعطي نفس المعنى وكلمات مشابهه كثيرة بمعزل عن الانتقاص والتجريح، وأنا على يقين بأننا يوماً بعد يوم سننسى هذه الكلمات على أمل ألا يتم اكتشاف كلمات أخرى أدهى وأمرّ لكيلا تتوالى إدانات الاختراع وتسجل - كما هو معلوم - ضد مجهول.