11 سبتمبر 2025

تسجيل

اليمن من المركزية إلى الفيدرالية

08 مارس 2012

يعتبر اليمن أول بلد من بلدان الربيع العربي يشهد انتقالا سلميا للسلطة بموجب المبادرة الخليجية، والذي طوى رسميا فترة حكم علي عبد الله صالح بعد انتخابات 21 فبراير، إلا أن نجاح الفترة الانتقالية يعتمد على مدى قدرة الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي على إيجاد حلول لمشاكل البلاد الأساسية، بما في ذلك قضية الجنوبيين ومسألة الحوثيين، والذين قاطعوا الانتخابات الرئاسية الأخيرة مما قد يشكل تهديدا حقيقيا لاستقرار ووحدة اليمن. ووضعت الثورة الشبابية السلمية في اليمن حدا ونهاية لحكم علي عبد الله صالح بعد أن تجاوزت كثير من العقبات وضربت مثلا رائعا في قوة الإرادة والصبر وقدمت للعالم صورة أكثر من رائعة عن سلمية كفاح شريحة الشباب، وغيرت خارطة اليمن القبلية والعسكرية، وأصبح الشباب حماة لمؤسسة الحكم التي لن تكون بعد الآن ملكا لعائلة أو حاكم مستبد يستقوي بها على الشعب. وتوجت جهود ثورة التغيير السلمية بانضمام بعض الوحدات العسكرية بكاملها للثورة وكذلك بعض القبائل الذين خاضوا معارك ضد القوات الموالية لصالح، بجانب قوة الجنوبيين والحوثيين في الوقوف مع الثورة والذي أدى في نهاية الأمر لرحيل علي عبد الله صالح غير مأسوفا عليه. فلقد أسهم علي عبد الله صالح في تدهور أوضاع اليمن خاصة بعد تجربة الوحدة اليمنية التي بدأت في 1990 والتي شابتها أخطاء عززت انعدام الثقة بين الجنوبيين وأهل السلطة في الشمال، فالجنوبيون يرون أن الوحدة قد فرضت عليهم مرتين، قسريا في 1990 وعسكرياً في حرب 1994 رغم رمزيتها المعنوية الإيجابية. ولم يراعِ علي عبد الله صالح بفرضه للوحدة - بصيغتها تلك - المصلحة الحقيقية للشعب اليمني، ولم يضع تقدم البلاد وحريتها ومؤسساتها الدستورية وطرق توزيع ثرواتها في حساباته السياسية، وكأنما لم تعنِ له الوحدة سوى كلمة حق لم يراد بها الحق والعدل، ذلك أن الوحدة قد أسهمت في تقوية الموروثات القبلية، وأطالت من النهج الاستبدادي للنظام والذي نشر الفساد والمحسوبية والفئوية من ناحية وعضد الفكر القبلي والمتشدد من ناحية أخرى، وأفرزت نتائج الوحدة أخطاء كثيرة لم يكن من المفترض أن ترى النور، وحدث كل ذلك بسبب انقلاب علي عبد الله صالح على الوحدة وسيطرة الحزب الواحد على الحكم طوال السنوات الماضية وإقصاء الجنوبيين عن المشاركة في الحكومة حيث استأسد على خيرات وثروات البلاد من نفط وأراض وتجارة وغيرها من الموارد الاقتصادية واستغلالها لمصلحة حفنة من المقربين، واستطاع الاستمرار في الحكم بفضل السيطرة القبلية والعسكرية وسيطرة الحزب الواحد وانفراده بالحكم وإنكار المشاركة ورفضه لكافة آليات تداول السلطة. ولم يستطع حكم علي عبد الله صالح تحقيق الاندماج الوطني باعتبار أن واقع اليمن يعاني من تباين فكري وفئوي، فلقد كرس صالح لهيمنة البنية القبلية والفكر التقليدي في الشمال في الوقت الذي غلفت فيه الاشتراكية في الجنوب مصالح فئات وشرائح تتعارض مصالحها مع مشروع الوحدة. فلا يكفي أن يطرح نظام علي عبد الله صالح شعار الوحدة كنهج رافض للتجزئة السياسية، بل الأمر يتطلب حلا أشمل للمشكل اليمني يتمثل في الاستغناء عن نظام الحكم المركزي وتبني النهج الفيدرالي باعتباره قاعدة أساسية للبناء الديموقراطي والوحدوي. فما يحتاجه اليمن حقيقة هو إصلاح مؤسسة الحكم من الداخل ومحاربة الفساد والحد من حكم الفرد العائلي والعشائري، فاليمن للجميع وليس لفئة أو عشيرة أو مذهب أو شخص، وعندما يصل اليمنيون لحالة توافق وطني سيتحقق وقتها الاندماج الوطني. وببناء برنامج إصلاح حقيقي شامل بضمانات دولية وإقليمية فإن كل الملفات العالقة ستحل تلقائيا، وبالتالي لن يسعى الشعب اليمني في الجنوب إلى المطالبة بفك الارتباط ولن يسمع لدعوات الانفصال دويا كما حدث في الماضي القريب، فلقد تخلت أغلب التنظيمات الجنوبية عن فكرة الانفصال بعد قيام ثورة الشباب السلمية معلنين تأييدهم لثورة الشباب ورافعين علم الوحدة. فلتذهب إذا سياسات التهميش والإقصاء والهيمنة المناطقية والعشائرية والعائلية أدراج رياح التغيير. وليبقى اليمن الفيدرالي السعيد ديمقراطيا في ظل قيادة تمتلك الشفافية وتتمسك بالأدوات الديمقراطية. إن الوحدة هدف سامي سعى له شعب اليمن بدمائه وتضحياته، والأصعب من تحقيق الوحدة نفسها هو الحفاظ عليها وتنميتها وجعل الناس يتنفسونها في حياتهم اليومية، وليست مجرد شعور طاغ متعال وإحساس بهيمنة القوي على الضعيف، أو ثوبا فضفاضا يستر فساد السلطة وأجهزة الحكم، والوحدة ليست مجرد أغنية حماسية تذاع في الأثير وتشاهد في التلفاز، إن الوحدة الحقيقية لا يصونها إلا الشعب، ولا يمكن أن تكون حالة جذب سماوي يسبح بحمدها الرئيس وحده وتكتوي بنيران فشلها جماهير الشعب. ولكن رحيل صالح لا يعني أن مشاكل اليمن قد انتهت بين عشية وضحاها، فثلاثة عقود من الحكم تركت دون شك تركة ثقيلة نتمنى ألا ينوء عن حملها الرئيس عبد ربه منصور هادي أو أي كتلة سياسية قادمة عبر الانتخابات، وتشمل هذه التحديات جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من بينها تحسين مستويات المعيشة وتنمية الاقتصاد القومي، وسيواجه يمن ما بعد سقوط نظام صالح ورحيله، استحقاقات كبيرة من أهمها إيجاد حل عادل للقضية الجنوبية، وقضية الحوثيين في صعدة، وموضوع إرهاب "القاعدة" التي كان يرعاها النظام السابق كنوع من الابتزاز للأمريكيين والغرب، إضافة إلى القضايا الأساسية في حياة المواطن كالفساد والتنمية وبناء الدولة المدنية الحديثة. ويواجه الرئيس اليمني الجديد مهام صعبة وتحديات كبيرة وخطيرة خلال فترة العامين المقبلين، حيث تتعدد المطالب التي يسعى الشعب اليمني إلى تحقيقها، وتتنوع ما بين إصلاح ما أفسده نظام صالح، وما يتطلع إليه أبناء الشعب نحو غد أجمل لهم ومستقبل وحدوي أفضل لبلادهم. وعليه فإن أكثر الأولويات أهمية التي تقف أمام الرئيس اليمني الجديد تتمثل في البدء بوضع آلية إصلاح تبدأ بالدستور، وتحقيق توافق وطني شامل لا يستثني أحدا، وتطوير نظام التعددية السياسية والحكم الرشيد وضمان آلية تداول السلطة بمشاركة جميع القبائل وتشكيل نسيج من جميع الأطراف يؤدي إلى توافق وطني لضمان استمرارية الوحدة، والاتفاق على أسس دستورية لقيام دولة مدنية حديثة أساسها المواطنة والعدل والمساواة بنظام فدرالي يعزز من صلاحيات الأقاليم، فإن نجاح اليمن مرهون بنجاح الفيدرالية. إن أمام الرئيس عبد ربه منصور هادي فرصة تاريخية من أجل إحداث تغيير حقيقي لبناء الدولة المدنية الحديثة واستعادة المشروع الحضاري لنهضة اليمن الموحد الذي يلبي طموحات الشعب ومطالب ثورة الشباب السلمية. ونحن من جانبنا يحدونا الأمل في أن يكون للرئيس عبد ربه هادي حصان السبق في هذا التحول بعد أن أجمع عليه اليمنيون وتسلم مقاليد رئاسة الدولة، وأن الفرصة الآن صارت مؤاتية له للعب دور تاريخي في كتابة تاريخ اليمن الحديث بإخراج اليمن من هذه الأزمة الخطيرة، وإذا ما استطاع هادي قبول التحدي وتجاوز الأزمة، فإن ذلك سيمثل حافزا ضخما يذلل الطريق أمام تلبية مطالب الشعب. عبد ربه منصور هادي يمكن أن يمثل رمز اليمن الحديث، ولديه الفرصة المتاحة ليذكره التاريخ وليكون خالدا في ذاكرة اليمن كرمز قومي وأحد المؤسسين للدولة اليمنية العصرية الحديثة، فالرئيس هادي يستطيع أن ينقل اليمن من مهب ريح الربيع العربي إلى رحاب حدائق اليمن السعيد.