27 أكتوبر 2025

تسجيل

أخبار العرب واليهود قديماً

08 فبراير 2024

جاء كتاب (تاريخ اليهود في بلاد العرب: في الجاهلية وصدر الإسلام) عن رسالة لنيل درجة الدكتوراه حول تاريخ اليهود في شبه جزيرة العرب، والتي وضعها المستشرق اليهودي إسرائيل ولفنسون (1899-1980) والملقب بـ (أبو ذؤيب) في إحدى الجامعات المصرية وتحت إشراف عميد الأدب العربي د. طه حسين. وُلد المستشرق في فلسطين ثم انتقل إلى مصر ودرس اللغتين العبرية والعربية ودرّس في جامعاتها، ثم عاد إلى فلسطين وأصدر العديد من الكتب أشهرها الذي بين أيدينا. ولأن إصدار الكتاب جاء في عام 1927، أي قبل احتلال فلسطين بما يقرب العقدين من الزمان، ما يجعله في منأى عن تحيزات الرأي بطبيعة الحال، إلا أنه لم يخلُ من نبرة تعظيم لكل ما هو يهودي، من مكانة رفيعة أساسها شعب الله المختار، وفضل يدين لهم الإسلام وأمة العرب به! رغم هذا، فقد اعتمد المستشرق منهجاً استدلالياً مستعيناً بالمصادر العربية والإسلامية إضافة إلى المراجع العبرية وأبحاث المستشرقين السابقة. ينقسم الكتاب إلى تسعة أبواب. يظهر في الأول (اليهود في بلاد الحجاز) انتقال اليهود من فلسطين إلى أرض الحجاز وقد انقسموا إلى أحبار وأميين، واشتراكهم والعرب في منظومة الأعراف والأخلاق وقرض الشعر، وتفوقهم على العرب في صياغة الذهب وصناعة الدروع الحربية، في حين يظهر في الثاني (ظهور اليهودية في بلاد اليمن) انتشار اليهودية في اليمن كحركة مقاومة للأطماع السياسية التي خاضتها الإمبراطورية الرومانية المشبّعة بالفكر المسيحي، وذلك لانصهار اليهودية كمعتقد مع عقيدة العرب، ويأتي الباب على ذكر قصة أصحاب الأخدود وجيش أبرهة وعام الفيل. أما في الثالث (بطون يثرب وحوادثها وعلاقاتها باليهود)، فيظهر انتقال اليهود إلى يثرب مع حادثة (سيل العرم) التي تسببت في انهيار سد مأرب، والذي بيّنت الأبحاث الاستشراقية في شأن انهياره حوادث متتالية تسببت في إهماله بالتدريج. وفي الرابع (أحوال العرب الاجتماعية والدينية والسياسية في بلاد الحجاز قبيل ظهور الإسلام)، تظهر محافظة اليهود على معتقدهم الديني وإرثهم الفكري رغم الهزائم التي تعرضوا لها على يد أحباش اليمن، في حين لا يعمد اليهود إلى نشر دينهم بين الأمم لإيمانهم باقتصاره على من وُلد لأم يهودية. أما في الخامس (مكة ويثرب إزاء الحركة الإسلامية) فيثير المستشرق أسئلة جدلية حول موقف قريش ويهود يثرب من بيعة العقبة والتي لا تأتي المراجع الإسلامية على ذكرها كشبهة تجاهل، في حين يعرض السادس (هجرة الرسول إلى يثرب وإجلاؤه بني قينقاع والنضير عنها) هجرته ﷺ وصحبه إلى يثرب التي استبشروا بها، حيث اليهود -وهم أهل الكتاب- الأقرب في جوهر عقيدتهم إلى دعوة التوحيد، غير أن اليهود -رغم تلهّفهم لملاقاة النبي الجديد- استغربوا دعوة نفس العقيدة على يد غير يهودي، فهم وإن استقر لديهم أمر محاربة الوثنية، فقد استهجنوا فكرة نبذ العقيدة الابراهيمية التي ترسّخت في قلوبهم والتي اختتمت بالتوراة، تماماً كما القرآن الذي يؤمن به المسلمون ككتاب خاتم. أما السابع (غزوة بني قريظة) فيتعرّض إلى انضمام بنو قريظة مع بني قينقاع وبني النظير إثر حادثة إجلائهم -فيما يعرف بالأحزاب- للحرب ضد الإسلام، وهي الحرب التي أنهت الوجود اليهودي في يثرب تماماً. ويعرض الثامن (غزوة خيبر) تحريض اليهود لقريش ضد المسلمين كسبب رئيسي لشنّ الحرب، إضافة إلى نقض اليهود العهد الذي كان بينهم وبين الرسول، ورغم حصون خيبر المنيعة فوق الجبال، فقد انتهت الحرب بهزيمتهم وإبرام الصلح مع المسلمين. وفي الباب التاسع والأخير (إجلاء اليهود عن البلاد الحجازية) يقوم الخليفة عمر بن الخطاب بإجلاء ما بقي من اليهود لا سيما ممن لم يكن على عهد مع الرسول، حيث تفرّق بعضهم في الشام في حين انتقل البعض الآخر إلى تيماء والحجاز ووادي القرى، حتى انعدم وجودهم شيئاً فشيئاً. وعن الوضع الديني والسياسي والثقافي للعرب في بلاد الحجاز قبل مجيء الإسلام، يقول المستشرق: «وقبيل ظهور الإسلام، وجدت في الديار العربية نهضة فكرية عظيمة كان الاضطراب من علاماتها، وقبيل الإسلام أيضاً أصبحت القلوب صالحة لقبول دعوة دينية جديدة. لو كان واحد من المفكرين الحنيفيين دعا لتوحيد الإله مع إبقاء النظم العربية الاجتماعية التليدة لكانت دعوته قد صادفت أرضاً خصبة. وبقيت أفكار أهل الجزيرة العربية مضطربة اضطرابا عنيفاً بين اليهودية والنصرانية والوثنية إلى أن ظهر رجل رفع علم النبوة وصار غرة ناصعة في جبين الدهر ومجداً باقياً ما بقي الزمان وأرغم التاريخ على أن ينحو نحوا جديداً.. وكان اسمه محمد بن عبد الله من آل قريش من مدينة مكة». ختاماً، ومع هذا البحث الأكاديمي الذي حذّر بعض أصدقاء الباحث من احتمالية تهييجه عواطف الطائفتين، خصوصاً فيما ثار من خلاف بين نبي الإسلام ويهود يثرب، والسخط المرافق حال ميل الرأي ضد الأخرى، فهو يؤكد بدوره في تصدير الكتاب: «أن رسالتنا موجهة إلى طائفة المفكرين الذين لا ينشرون دعوة خاصة في كتاباتهم، بل يقصدون دائماً البحث المجرد عن العواطف القومية والدينية».