17 سبتمبر 2025
تسجيليأخذ بعض الباحثين والمحللين السياسيين خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مناسبة تجديد ولايته الثانية، والتحولات الطارئة على مجمل السياسات الأمريكية في المنطقة، كأساسين لنهج إستراتيجي جديد تتخذه واشنطن فيما يتعلق بالشرق الأوسط. يستشهد، جاء ذلك بعد الفشل في تنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة، في ظل تبدل الأوضاع عالمياً وتغير في المناخ الدولي. أصحاب وجهات النظر هذه يرون أن الإدارة الأمريكية في ولاية أوباما الثانية أكثر تحرراً من الضغوط. ولذلك ستُقدم على قرارات تاريخية جريئة لعقد التسويات وإحلال السلام والقبول بالشراكة الدولية. فهناك قرار استراتيجي بإطلاق رؤية جديدة للعمل في المجال الدولي وفي كيفية التعامل مع ملفات وأزمات المنطقة. يأتي كل ذلك من وجهات نظرهم نتيجة للفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان. وثبات المقاومة في لبنان، وعودة روسيا إلى الساحة الدولية وصعود الصين وغير ذلك من العوامل. بداية، فإن الخطوط الإستراتيجية الأمريكية فيما يتعلق بالشرق الأوسط جرى تحديدها في عام 1947 بقرار اتخذه الكونغرس الأمريكي في عهد الرئيس ترومان (بعد أفول بريطانيا) وعرف "بقرار فاندنبرغ" وهو يدعو: إلى انتهاج سياسية أمريكية معادية للشيوعية في الشرق الأوسط، على أساس الاتفاقات الجماعية (مع دول المنطقة) حيث أمكن ذلك، والعمل الانفرادي حين تدعو الحاجة. إعطاء الولايات المتحدة حق استخدام القوة حيثما تعتبر ذلك ضرورياً حتى وإن تناقض ذلك مع القانون الدولي المعاصر وقرارات الأمم المتحدة. أيضاً تسييد مبدأ الاحتواء (Containment) والمبدأ الذي يرتكز إلى مفهوم توراتي وهو (من ليس معنا فهو ضدنا). من أجل تحقيق سياساتها اتخذت الولايات المتحدة أساليب كثيرة من بينها: تقديم مساعدات للدول الأخرى، إنشاء مشاريع اقتصادية: مشروع مارشال، ومشروع النقطة الرابعة H4. إيجاد واجهات ويافطات للتدخل تحت مسميات كثيرة: ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، تفعيل دور المخابرات المركزية، التدخل العسكري (إنزال عسكري في لبنان عام 1958) أحلاف: حلف بغداد وغيرها. واشنطن غطت كل تدخلاتها بعناوين مثل "الاستجابة" لنداء المبدأ، "حق الشعوب في تقرير مصيرها". تنفيذ مبادئ الرئيس ويدرو ويلسون الأربعة عشرة التي أعلنها بعد الحرب العالمية الأولى وجعل منها أسساً للسياسة الخارجية الأمريكية. (هشام شرابي، المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأميركا، دار النهار للنشر، بيروت 1970، ص37-53). بعد إنشاء إسرائيل وبمساعدة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية، جعلت أمريكا من هذا الإنشاء: ركناً استراتيجياً أمريكياً لسياساتها الخارجية في المنطقة، والمحافظة على الأمن الإسرائيلي أولاً وأخيراً. حاول جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي في ولايتي الرئيس أيزنهاور: تجسيد الخطوط الإستراتيجية الأمريكية من خلال الجمع بين مفهومي "الإمبريالية" و "الأخلاقية"، من خلال تعبير "الإمبريالية الأخلاقية" لذلك فإن "الحرب الباردة" هي"كفاح بين قوى الخير-أمريكا والغرب- وقوى الشر-الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية". لقد اعتبر دالاس الشرق الأوسط ذات أهمية فائقة في" الحرب الباردة". ذلك تماشى مع اعتبار الرئيس أيرنهاور (الذي كان قد شغل منصب القائد الأعلى لقوات حلف الأطلسي إبّان الحرب العالمية الثانية) للشرق الأوسط بأنه المنطقة الأهم في العالم. حرصت الولايات المتحدة على إبقاء الاتحاد السوفيتي خارج المنطقة، تقوية إسرائيل بالمعنيين الاقتصادي والتسليحي، عدم السماح للدول العربية بامتلاك أسلحة تهدد الأمن الإسرائيلي. التدخل المباشر في حروب إسرائيل مع الدول العربية. سياسة الأحلاف مع دول المنطقة. التآمر مع إسرائيل لهزيمة وإسقاط عبدالناصر في عام 1967. قبل ذلك التآمر على الوحدة بين مصر وسوريا، فقد حدث الانفصال في عام 1961 وغيرها من الخطوات. الولايات المتحدة وتنفيذاً لسياساتها اتبعت أسلوب الحصار الاقتصادي للدول. من ناحية ثانية تجدر الإشارة إلى دور المجمع الصناعي المالي الأمريكي في السياسة الخارجية. لقد تحدث الرئيس الأمريكي أيزنهاور في خطابه الوداعي إلى الشعب الأمريكي مساء يوم 17 يناير من عام 1961 عن خطر هذا المجمع قائلاً: "عليّ أن أقول صراحة: أن هناك مجموعة صناعية عسكرية، مالية، سياسية، فكرية تمارس نفوذاً غير مسبوق في التجربة الأمريكية، ومع أننا نتفهم الظروف التي أدت إلى نشأة هذه المجموعة. فإننا لابد وأن نحذر من وصولها إلى موقع التأثير المعنوي والسياسي والعملي على القرار الأمريكي، لأن في ذلك خطرا شديدا علينا قبل أن يكون خطراً على غيرنا". الملاحظة الأهم: أن الشركات الكبرى وهي القوة الصانعة للعولمة، هي الأسخى تبرعاً لمرشحي الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية وهي الأكبر إسهاماً في تمويل نشاطات مؤسسات ومراكز البحث السياسي والاستراتيجي. بالمعنى العملي، فإن تأثيرات هذا المجمع زادت أضعافاً مضاعفة مقارنة مع الستينيات في التأثير على السياسات الخارجية الأمريكية (بيتر مارتن، هارولد شومان، فخ العولمة، الطبعة الثانية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، الكويت 2003، ص212). جاء جورج بوش الابن إلى الرئاسة وهو وإداراته الصقورية طرحاً مبدأ الضربات الاستباقية وشعار "من ليس معنا فهو ضدنا" وبخاصة بعد أحداث نيويورك في عام (2001)، فتم غزو أفغانستان والعراق، وابتدأ العجز في الميزانية الأمريكية فيما بعد وتتابعت الأحداث التي نعيش إرهاصاتها الآن. استعراض ما سبق هَدَفَ إلى إثبات المسائل التالية: أولاً: "أن الإستراتيجية الأمريكية فيما يتعلق بالمنطقة هي ثابتة. ما يتحول فيها هو أنماط التعامل وفقاً لطبيعة الحدث وظروفه. هذه المسألة هي أقرب إلى التكتيك السياسي المتحرك أكثر منه تغييراً للإستراتيجية. ثانياً: إن الصانع الحقيقي للإستراتيجية هو رأس المال المالي المتمثل في المجمع الصناعي العسكري، الإدارات الأمريكية المتعاقبة هي واجهات تمثيلية لإستراتيجية المجمع. ثالثاً: إن ما بدا أنه شعارات جديدة في السياسات الأميركية: الضربات الاستباقية وشعار "من ليس معنا فهو ضدنا" هي مبادئ أساسية في الإستراتيجية الأمريكية جرى رسم ملامحها ووضع أسسها في الأربعينيات. رابعاً: إن ما يبدو حالياً من إستراتيجية أمريكية جديدة هي توجهات يمكن تغييرها سريعاً. كمثل على ذلك نقول: خطاب أوباما في جامعة القاهرة والذي وعد فيه باتباع أساليب جديدة قائمة على التفاوض والاحترام في التعامل مع العالمين: العربي والإسلامي. وكان ذلك بُعيد تسلمه للرئاسة في ولايته الأولى، ضرب أباما بوعوده عرض الحائط. وكرّر تجربة حقبة بوش الابن بكل ما فيها من صقورية. كذلك وعوده حول الاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية. صحيح أن الولايات المتحدة قد أخفقت في العراق، لكنها سيطرت على بتروله، وملأت أراضيه بالقواعد العسكرية الأمريكية، ثم أعادته عقوداً طويلة للوراء فيما يتعلق بقواته وقدراته القتالية. كل هذه العوامل أنجزتها الولايات المتحدة الأمريكية.. تتمحور السياسة الأمريكية الآن في تفتيت وتجزئة الدول العربية وهذا ما يجر تنفيذه. جملة القول: إننا لسنا أمام إستراتيجية أمريكية جديدة في المنطقة، وإنما أمام تحولات سياسية تكتيكية.