12 سبتمبر 2025
تسجيلفي مقالنا السابق تحدثت عن المقومات الأساسية للحضارة الإسلامية والتي لها دور كبير في قابليتها للانتشار والحضور بين الأمم، وسأبدأ في هذا المقال بالكلام عن المقومات الإيمانية والعقدية: أولاً- العقيدة الموافقة للفطرة إن عقيدة الإسلام تتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة لدرجة أنه لم يجد العربي الذي يعيش في الصحراء صعوبة في الاستدلال على وجود خالق لهذا الكون، حتى قال قائلهم " البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير " مستدلا على وجود الخالق ذلك بفطرته السليمة التي لم تلوثها الأفكار الدخيلة ولا العقائد الفاسدة، قال الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم/30 فعقيدتنا سهلة سلسة ميسورة الفهم، لا تعقيد فيها ولا غموض، وعبارة " العقيدة الموافقة للفطرة " على بساطتها، ليست موجودة في دين غير دين الإسلام. عقيدة ثابتة لا تقبل الزيادة في قضايا التشريع هناك سعة ومساحة للتفكير وإعمال العقل، أما في العقيدة فالأمر محدود جداً، لأن عقيدتنا ثابتة لا تقبل الزيادة ولا النقصان ولا التحريف، والزيادة عندنا هي في مقدار الإيمان، كما يقول الشافعي رحمه الله " الإِيمانُ قولٌ وعمل، يزيدُ وينقص، يزيدُ بالطاعة وينقص بالمعصية "، لذا فلا يحلّ لحاكم أن يبطل شيئاً منها، ولا يحقّ لعالم أو مجمع فقهي أن يجري تعديلات عليها، ومن تجرأ على ذلك سمّي فعله إحداثاً في الدين، ورُدّ عليه، لأن أصول العقيدة وأصول الشريعة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولا تقبل الزيادة عليها أو الانتقاص منها، وفي هذا يقول نبي الرحمة محمد ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)) البخاري. عقيدةُ دليلٍ وبرهانٍ ومنطق في أكثر من آية –خاصة مسائل العقيدة – يطلب الله تعالى من المشركين أن يأتوا بدليل أو برهان على ما يزعمون، وتكرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم قول الله تعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ). فعقيدتنا عقيدة مبرهنة " لا تكتفي من تقرير قضاياها بالإلزام المجرد والتكليف الصارم، ولا تقول كما تقول بعض العقائد الأخرى "اعتقد وأنت أعمى" أو "آمن ثم اعلم" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني" أو "الجهالة أم التقوى"... ولا يقول أحد علمائها ما قاله القديس الفيلسوف المسيحي (أوغسطين): "أؤمن بهذا لأنه محال"! بل يقول علماؤها: إن إيمان المقلد لا يقبل". فالإنسان قد يقلد في قضايا التشريع والسلوك، لكن في قضايا العقيدة لا يكفي أن يُولد الإنسان لأبوين مسلمين، بل لا بدّ من الاقتناع بأن الإسلام هو الدين الحق، وأن الله تعالى هو المتفرد بصفات الجمال والكمال، ووحده من يستحق أن يُعبد. عقل ووجدان مما يميّز عقيدتنا كذلك أنها " لا تكتفي بمخاطبة القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساساً للاعتقاد، بل تتبع قضاياها بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع، والتعليل الواضح، الذي يملك أزمة العقول، ويأخذ الطريق إلى القلوب، لذا يقول علماؤها: إن العقل أساس النقل.. والنقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح ". وبناء على ذلك فإننا مطالبون بأن نقدم العقيدة للناس كما أنزلها الله تعالى في القرآن الكريم، وكما بيّنها وفسّرها رسولنا الكريم، لأنها تتوافق مع العقل الذي خلقَه الله تعالى، فالوحي من الله تعالى والعقل خلْق الله تعالى فكيف يتناقضان أو يتعارضان. العبادة الدافعة للعمارة في كل الأديان المحرفة لا تجد علاقة بين العبادة والعمارة، أما في الإسلام فالعلاقة وطيدة، وهو يدعوك صراحة إلى أن تكون إيجابياً في هذه الكون، من خلال بذل الجهد في عمارة الأرض، قال الله تعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود/61 فالعابد الحقيقي لله تعالى هو من يضيف إلى العبادات المعروفة، عبادة عمارة الأرض، بأن يقيم حضارة ويصنع مدنية، تتفق مع مبادئ الإسلام ولا تتعارض مع أصوله، فالعبادة تدفع المسلم إلى عمارة الأرض وإصلاحها، والمسلم يتقرب إلى الله تعالى بعمارة الأرض، من استثمار لها بالزراعة، وإنتاج المحاصيل، وبناء المصانع، وإنتاج كل ما ينفع البشر، فالعمل والإنتاج في التصور الإسلامي عبادة، فليس من الإسلام ترك العمل بحجة التفرغ للعبادة. إيمان وعمارة الإيمان عندنا له طعم خاص، وله رؤية أعمق بكثير من الصورة التقليدية التي يتخيلها الناس، فإذا كنا نريد أن نعبد الله عز وجل حقاً، فلا بد من أن نعمر الأرض، لأن عقيدتنا عملية، وإيماننا حركي، وليس مجرد بكاء في زوايا المسجد، أو هزّ للرؤوس من روحانية الخشوع، بل هو أعمق من ذلك، وهذا ما يؤكد عليه النبي (في حديث عجيب، حيث يقول ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)) أحمد والفسيلة هي النخلة الصغيرة، التي تحتاج إلى سنوات لتنمو وتنتج الثمر، وأتساءل هنا: لو زرعها متى ستنمو والساعة قد قامت..؟ ومن سيأكل منها إن زرعها...؟ في هذا الحديث يؤكد الرسول على قيمة العمل، وأهمية عمارة الأرض، والإيجابية في الحياة، حتى آخر لحظة من عمر الإنسان، أو من عمر هذه الحياة الدنيا. عبادة ثم عمارة لم تقم حضارة الإسلام الأولى على الدروشات والشعوذات، بل قامت على الإيمان الذي يحرّك نحو العمل، ومن الإيمان العملي أن يستثمر المسلم وقته في عمارة الأرض بعد أداء ما افترضه الله تعالى عليه، وهذا صريح في سورة الجمعة، حيث يقول الله تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) هذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي، والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد ونشاط وكسب، وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر.. وذكر الله تعالى لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله تعالى فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة، ولكنه مع هذا لا بد من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد المحض ". جنود مجهولون سئل " إبراهيم النخعي " رحمه الله ذات مرة عن رجلين أحدهما عنده مال ولديه تجارة يشتغل بها، ورجل آخر ترك التجارة وتفرغ للصلاة والعبادة أيهما أفضل؟ فقال رحمه الله: الأفضل منهما التاجر الأمين. وقياساً على كلام " النخعي " رحمه الله أقول: يا من تشتغلون بالإعلام الهادف النظيف، إياكم أن تظنوا أن أجركم أقلّ ممن يتعبد في المسجد، ويتقرب إلى الله تعالى بالنوافل، لأن الذي يتعبّد لله تعالى منفرداً إنما ينفع نفسه، أما أنتم فنفعكم متعدٍ إلى الآخرين، فربّ برنامج واحد يُصلح مئاتٍ من الناس وألوف، وهذا في ميزان الإسلام أمر عظيم، وداخل تحت عموم قول النبي ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) البخاري وكذلك يا من تعملون في السياسة، لا تظنوا للحظة أن أجركم أقلّ من أجر هؤلاء الذين يقومون الليل، فرب قانون واحد تنتصرون له يرفع الظلم عن آلاف الناس، وقانون آخر تصدرونه يحارب الفساد ويحاسب المفسدين، ويقيم العدل، وهذا في ميزان الإسلام أمر عظيم.