12 سبتمبر 2025

تسجيل

التوازن

08 يناير 2023

من المعلومِ أنَّ الحياة، كما هي مليئةٌ بالفرص، مليئةٌ أيضًا بالتحديات سواءً كان ذلك على مستوى الأفراد أوالمجتمعات أو حتى على مستوى الحكومات، بل إن العالم بأسره قد يواجه أنماطًا مختلفة ومتباينة من التحديات عبر الزمن، وكأن علينا أن نؤمن بأن تلك التحديات ‏جزءٌ من لعبة الحياة، البعض ينظر للحياة وكأنها سباق حواجز، فليس من المعقول أو المقبول أن يطلب أحد المتسابقين إزالة تلك الحواجز حتى يتسنى له الجري بحرية، والسبب بكل بساطة هو أن تلك الحواجز جزء من المسابقة، وهي التي تمحص المتسابقين فتفرز الموهوبين وذوي القدرات الغير عادية، عن الأشخاص العاديين، لذا فإننا عندما نواجه تحديًا ما، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التغلب على ذلك التحدي والقفز فوق حاجزه أو محاولة الكرة والاستعداد ‏للجولة القادمة،‏ ‏ولكن في هذه الحالة نحن بحاجة للتعايش مع الوضع حتى نتمكن من تجاوزه، وهذا ما يسمى بالتكيّف (Adaptation). قد يخلط البعض بين التكيّف مع الظروف المحيطة والتخلي عن المبادئ والمعتقدات، وهذا النوع يذكرني بالسؤال الذي عادةً ما أطرحه على المشاركين في ورش العمل حيث أسألهم عن سبب انقراض الديناصورات وبقاء الضفادع، بالطبع لا أحد يوافقني بأن السبب هو أن الضفادع أقوى ولا أذكى من الديناصورات، لنخلص إلى حقيقة أن الكائنات الصغيرة أو الدقيقة التي لا تزال تعيش بيننا اليوم لم تكن اذكى بل كانت أكثر قدرة على التكيّف مع الظروف المحيطة. في كتابي الخامس «حلق بجناحيك» فقرة بعنوان «كن كالماء»، أقول: «أنظر إلى قدرة الماء على التكيّف مع الظروف المحيطة دون أن يتغير جوهره المتمثل بتركيبته الكيميائية (H2O)، فالماء يوجد في الظروف الطبيعية بحالته السائلة وقد يتحول إلى جليد أو بخار حسب الظروف المحيطة به، كما أنه قد يأخذ أشكالًا متعددة حسب الإناء الذي يوضع فيه، وقد يجري الماء إذا وضع على سطح مائل بسرعة تتناسب مع درجة الميل فإذا زاد الميل زادت السرعة، كل ذلك مع احتفاظه بجوهره وتركيبته الكيميائية؟ فهلّا أخذنا العبرة من الماء؟. ‏إن من أهم التحديات التي قد يواجهها الموظف اليوم هي التوازن بين العمل والحياة، ‏قال لي أحد الأصدقاء: « ‏في ‏السنوات الأولى لحياتي الزوجية حضرت دورة تدريبية في إيطاليا وفي نهاية الدورة ‏طلبت من المحاضر، وكان قد شارف على السبعين من عمره، نصيحة خاصة كوني في بداية مشواري الوظيفي فقال لي كلمة واحدة (توازن).» يقول: «‏لم اكن لأفهم مغزى ذلك في وقته ولكن اليوم بعد أن بلغت الخامسة والخمسين من العمر، ‏وقد قضيت اكثر من 30 سنة في ‏ساعات العمل ‏الطويلة، اعتقد انني لم أعط أسرتي ولا نفسي الوقت الكافي للاستمتاع بالحياة». ‏ يقول السيد «نايجل مارش»، وهو ‏‏الكاتب والرئيس التنفيذي لعدة شركات وهو أسترالي من أصل بريطاني ألف عدة كتب في التوازن بين العمل والحياة ‏من ضمنها كتاب fat 40 and fired، ‏يقول عندما بلغت الأربعين من العمر قررت أن اتبع نصائح التوازن بين العمل والحياة، وكنت حتى تلك اللحظة اعمل لساعات طويلة مهملا لعائلتي الصغيرة، لقد ‏قررت بالفعل أن اغير نمط حياتي واتوقف عن العمل لمدة سنة ‏قضيتها في المنزل مع زوجتي وأبنائي الأربعة، ‏يقول السيد مارش: «إن كل ما تعلمته عن التوازن في تلك السنة هو أنه من السهل أن توازن بين الحياة والعمل إذا لم يكن لديك عمل»، ‏ثم قرر العودة إلى العمل مرة أخرى، وقضى سبع سنوات وهو يدرس ‏ويفكر ‏ويكتب عن التوازن بين العمل والحياة، وخلص إلى أربع نتائج رئيسية هي: ‏- بعض الوظائف تتعارض جذريا مع إمكانية إعطاء وقت لعائلة شابة. - ‏المؤسسات لن تحل هذه المشكلة، ‏لذا علينا نحن كأفراد أن نأخذ بزمام المبادرة والمسؤولية ‏لتحديد نوع الحياة التي نريد أن نعيشها، و‏إذا لم تصمم حياتك سيصممها لك شخصٌ آخر ‏قد لا تعجبك أفكاره عن التوازن بين العمل والحياة، فمن المهم أن لا تضع جودة حياتك في يد مؤسسة تجارية، ‏لأن الشركات التجارية ‏مصممة بطبيعتها للحصول على اكبر قدر منك. - ‏يجب أن نكون حذرين من الإطار الزمني الذي نختاره ‏للحكم على التوازن لدينا، ‏أي نكون واقعيين في توزيع الوقت وأن لا نقع في فخ تأجيل الاستمتاع بالحياة إلى ما بعد التقاعد، ‏اليوم قصير جدا وبعد التقاعد سيكون اليوم جدا طويل، لذا ‏يجب أن يكون هناك حلًا وسطا. - ‏نحن بحاجة إلى أن نصل إلى التوازن بطريقة متوازنة، ‏‏البعض ‏تقتصر محاولاته للوصول للتوازن على الاشتراك في الجم، ‏وهذا شيء جيد ولكن هناك أيضا جانبا فكريا وجانبا عاطفيا ‏وجانبا روحيا، ‏علينا الاهتمام بكل هذه الجوانب، لسنا بحاجة لعمل تغيير جذري كي نصل للتوازن، ‏الأشياء البسيطة ‏التي لم نتعود أن نقوم بها قد تعمل فرقا كبيرا..والجدير بالذكر هنا هو أن في تراثنا الإسلامي الكثير من الشواهد عن أهمية التوازن في الحياة، نورد منها الأثر الذي روي عن سلمان الفارسي أنه قال لأخيه أبي الدرداء عندما زاره فوجده قد انقطع للعبادة حتى أهمل حق زوجته وحق نفسه. فقال «إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ». وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله «صدق سلمان».