02 نوفمبر 2025

تسجيل

اتجاهات بناء الجيش العراقي الجديد!

08 يناير 2011

أعلن في الآونة الأخيرة عن إبرام صفقة تسلح بين الولايات المتحدة (التي تحتل العراق)، والحكومة العراقية (التي يتواصل بقاؤها ببقاء القوات التي تحتل العراق)، لتسليح الجيش العراقي، الذي أعيد تشكيله تحت إشراف قادة الاحتلال الأمريكي، بعد حل الجيش الوطني العراقي الذي قاتل القوات الأمريكية خلال عملية احتلال العراق. في هذه الصفقة، ثمة جوانب كثيرة مهمة. فهناك نوعية السلاح، وفي ذلك أشير إلى توريد طائرات هليكوبتر واتفاق أولى على توريد أخرى من طراز اف 16، ودبابات من طراز أبرامز ومدفعية ميدان. وهناك قيمة الصفقة التي أشير إلى أنها تبلغ نحو 18 مليار دولار ستدفعها الخزينة العراقية للولايات المتحدة التي سبق أن حطمت كل أسلحة الجيش العراقي الوطني خلال معركة احتلال العراق، بما يدفع للتساؤل حول خسائر التدمير وأموال إعادة التسليح. وهناك أن الصفقة لا تتضمن توريد أسلحة فقط، بل تتضمن جوانب تتعلق بالصيانة والتدريب أيضا، وفي ذلك جرت إشارة إلى مساحة طويلة من الوقت تجرى خلالها تلك الأعمال، بما يعني أن الاتفاق والصفقة يمثلان تجاوزا على الصعيد الزمني للاتفاقية الأمنية أو للاتفاقية الإستراتيجية التي يجري على أساسها انسحاب القوات الأمريكية وعدم بقائها في العراق. وقد لاحظ المتابعون أن وقت الإعلان عن الصفقة جاء مرتبطا بإشارات وتأكيدات على أن ثمة صفقات تسليح أخرى جرى عقدها بين العراق وكل من فرنسا وروسيا وكوريا الجنوبية ودول أخرى عديدة من أوروبا وآسيا، في تصوير وتوضيح بأن العراق ليس خاضعا للولايات المتحدة وأن ثمة اتجاها لتنويع مصادر السلاح، بما يطرح دلالتين، أولهما أن حكم العراق يكافئ دولا أخرى معظمها شاركت في الحرب على العراق واحتلاله وتغيير نظامه، وثانيهما، أن الولايات المتحدة المتحكمة في العراق سمحت بإبرام صفقات أخرى ضمن تسويات سياسية تقوم بها حول العراق. وبمراجعة اتجاهات الصفقة الأساسية وما أعلن بشأنها، يجد المتابع نفسه في مواجهة أول حديث مؤكد حول نمط تسليح الجيش العراقي، الذي كانت سلطة وقوات الاحتلال حريصة منذ بداية الاحتلال وحل الجيش الوطني، على عدم تسليح الجيش الجديد بأنواع معينة من الأسلحة أهمها الطيران خاصة ثابت الجناح، إذ جرى ميلاد هذا الجيش دون سلاح الطيران، وذات الأمر ينطبق على مختلف أنواع التسليح الأخرى المهمة- مثل الدبابات ومدفعية الميدان -حتى جرى الحديث عن أن الجيش العراقي الجديد ليس إلا حالة من حالات قوى الأمن الداخلي لكن ذات قدرات أوسع، وأن ثمة حرصا أمريكيا على ألا يكون جيشا بالمعنى المعروف للجيوش. والمعنى أننا أمام قرار أمريكي بتطوير قدرات الجيش العراقي على نحو مختلف عن ما كان سائدا منذ بداية الاحتلال وحتى بدء الحديث عن تلك الصفقة، وأن هذا التطور مرتبط بمقدار انسحاب القوات الأمريكية من العراق. لكن القضية في الأصل في تسليح الجيوش لا ترتبط في الأساس بنوع السلاح من الزاوية التقنية البحتة، ولكن أن كل تسليح لأي جيش هو "فكرة سياسية" أو كما يقال إن لا انفصال بين الأسلحة والتقنيات من جهة "وأهداف استخدام السلاح"، إذ العقيدة القتالية لكل جيش هي الإطار العام الذي يحدد العدو المحتمل وطبيعة التحديات الإستراتيجية التي يواجهها هذا الجيش من هذا العدو وفي إطارها تجرى عملية تسليح الجيش. في الصراع الهندي الباكستاني تتمحور العقائد القتالية حول مواجهة الجيش كل جيش للآخر، وتتحدد حالة تسليحه ونمط إستراتيجيته وتكتيكاته على هذا الأساس. وفي الصراع العربي الإسرائيلي تظهر خصيصة أخرى، فإذا كان طبيعيا أن تكون العقائد القتالية للجيش الإسرائيلي والجيوش العربية هي عقائد متقاتلة متعادية تعتبر كل منهما الآخر عدوا، فرغم السلام والمعاهدات، لا تزال العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي تعتبر جيوش الدول العربية (وعلى رأسها جيوش الدول التي وقعت معها اتفاقات) هي جيوش معادية، فتتحدد نوعية السلاح وتطويراته على أساس قدرات الجيوش المعادية وكذلك الأمر بالنسبة للجيوش العربية. وهنا يأتي التساؤل حول العقيدة القتالية للجيش العراقي الجديد من زاوية التعامل مع ثلاث دول بشكل خاص هي إيران التي سبق أن اعتبرها العراق أحد أبرز مهدديه على الصعيد الإستراتيجي ودخل معها حربا مدمرة، وإسرائيل التي طالما اعتبرت أحد مهددات وجود العراق كدولة ومجتمع، وهو ما ظهر في حالات صراعية عدة، وثالثها الولايات المتحدة التي دخلت حربا ضد الجيش العراقي كانت بمثابة حرب إبادة له وكل قدراته. واقع الحال أن الجيوش العربية هي ظاهرة جديرة بالفهم من زاوية كينونتها ودورها في المجتمعات العربية وربما يجب مد النظر إلى علاقتها بالسلطة السياسية من زاوية المقارنة بينها وبين جيوش الدول الأخرى. وذلك مفتاح مهم للنظر في حالة الجيش العراقي الجديد. الجيوش العربية الحديثة، هي جيوش تشكلت في ظل وجود احتلال غربي للبلاد العربية. هذا القول مفهوم من خلال قراءة وقائع التاريخ، إذ المستعمر الغربي كان مسيطرا على كل الدول العربية بلا استثناء خلال حقبة التحديث التي جرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. والمعنى أن الجيوش العربية – وتلك وقائع يرويها التاريخ أيضا- كانت تتشكل وتدار وترسم عقائدها القتالية وتتحدد أسلحتها وفق ما يراه المستعمر، الذي حافظ على جعلها قوة قتالية تحت طلب قواته وأبقاها قوات ضعيفة العدد والتسليح والقدرات، بل إن الطفرة التي حدثت في قدرات تلك القوات ما بعد الحرب العالمية الأولى لم تجر في واقع الحال إلا وفق مخططات المستعمر، ولخدمة أهدافه في إدارة المجتمعات المستعمرة، وفي مواجهة المستعمرين الآخرين، على خلفية الصراع الذي كان محتدما بين الدول على استعمار الدول الأضعف وإعادة تقسيم النفوذ في العالم. لقد اضطر المستعمرون لتطوير قدرات الجيوش العربية في تلك الفترة لتحقيق هدفين خاصين به، الأول هو رفع كفاءة تلك القوات في مواجهة حركة الشعوب التي تصاعدت بعد الحرب مطالبة بجلاء المستعمر، الذي كانت قواته قد تعرضت إلى حالات إنهاك حقيقية خلال الحرب العالمية، بما اضطره إلى التوسع في الاستعانة بقدرات جيوش الدول المستعمرة للمساعدة في قمع حركة الشعوب. وثانيها أن تلك الفترة كانت تحمل إرهاصات احتمالات وقوع حرب عالمية ثانية، بما دفع الدول المستعمرة إلى تعظيم قدرات جيوش المستعمرات لصد محاولات الدول الاستعمارية الأخرى التي كان متوقعا أن تنقل معاركها إلى المستعمرات أو لتقوم بدور تأمين حالة بقاء الشعوب تحت سطوة الاستعمار خلال انشغال جيوش الدول المستعمرة بالحرب ضد جيوش الدول الاستعمارية الأخرى. وهكذا إذ حلت الحرب العالمية الثانية، فقد حملت في طياتها عدة تغيرات فيما يتعلق ببناء جيوش المستعمرات وعلى صعيد توازنات القوة داخل المجتمعات المستعمرة، والأهم أن ترابطا جديدا جرى بين جيوش المستعمرات وطموحات شعوب المستعمرات عبر بوابة إحساس الجيوش بدورها الوطني كجزء من نسيج الشعوب والأمم. لقد كانت الحرب العالمية الثانية طاحنة بما أنتج تغييرا في التوازنات الدولية. باختصار ذهبت الهيبة والسطوة الاستعمارية عن الدولة الأكثر استعمارا للدول عبر التاريخ، وهي بريطانيا، وكذا تراجعت القوة الاستعمارية الثانية على الصعيد الدولي وهي فرنسا. وكان الأهم أن دولا أخرى صعدت على المسرح الدولي وصارت تعمل لإضعاف الدول الاستعمارية القديمة وتدفع الأوضاع في الدول المستعمرة لتتخلص من الاستعمار القديم لتحل هي محلها. وفي الجانب الآخر، كان أن تعمقت قدرات الجيوش في دول المستعمرات وزاد عددها وصارت تشعر أكثر بارتباطها بشعوب بلادها لا بالمستعمر وتغيرت نوعيات المنتمين إليها مع توسع أعدادها، فصارت أكثر تأثرا بحالات فوران الشعوب ضد المستعمر. تعمقت قوة وقدرة جيوش المستعمرات وصارت مرتبطة بشعوبها أكثر من ارتباطها بالأهداف الاستعمارية فصارت جيوشا وطنية، وهنا بسبب أنها القوة الأكثر تنظيما في المجتمعات والأكثر قدرة على الفعل السياسي، صارت تلعب دورا سياسيا أتاحه لها فراغ القوة في الحالة الاستعمارية وفراغ القوة في داخل مجتمعاتها. وفي ذلك أصبح ممكنا القول بأننا أمام نمط جديد من دور الجيوش والمؤسسة العسكرية، نمط صار يشكل عقائد جديدة مختلفة ليس فقط عن بداية تشكل تلك الجيوش بل عن مختلف الجيوش في العالم أو عن النظرة الكلاسيكية لفكرة ودور الجيوش في البناء الوطني والنظم السياسية وقواعد إدارة الحكم.. إلخ في الفهم الكلاسيكي لدور الجيوش في النظام السياسي أو في إدارة الحكم، فقد تشكلت نظرات ورؤى تكاد تكون واحدة رغم المظهر الخادع للخلافات والصراعات الأيديولوجية. لقد حددت الرأسمالية في طورها الليبرالي دورا للجيوش تابعا للقرار السياسي ومنفذا له، واعتبرها منفذا للقرارات الإستراتيجية والسياسية التي تحددها النخب السياسية الحاكمة، وفي ذلك جرى الاستقرار على حرفية ومهنية الجيوش لا سياستها، وعلى ألا تتدخل في السياسة ولا في إدارة الحكم ولا في تحديد من يصل إلى الحكم. وفي المقابل وإذ نعتت الاشتراكية دور الجيوش في النظم الليبرالية بالديكتاتورية المقنعة وأنها جيوش تدير دفة الحكم في الخفاء، واعتبرتها أداة طبقية تخضع لهيمنة الطغمة الرأسمالية وأنها تحميها من ثورات الجهور المستغل من قبل أصحاب رؤوس الأموال.. إلخ، فهي لم تقدم نموذجا آخر، باعتبارها رفعت شعارات ديكتاتورية الفئات الأدنى ضد الأعلى في المجتمع وأنها جيوش تفرض ديكتاتورية البروليتاريا، فثبتت بذلك مقولة وفكرة أن الجيوش أداة في يد الطبقات الحاكمة، بغض النظر عن الطبيعة الاجتماعية للفئات التي تقمعها. غير أن الجيوش في العالم الثالث قدمت نموذجا آخر في علاقتها بلعبة الحكم في العديد من الاتجاهات. فهناك أن تلك الجيوش صارت هي من "يحكم مباشرة"، إذ شهدت الكثير من دول العالم الثالث، قيام العسكر بانقلابات عسكرية أطاحت بالحكومات ونظم الحكم، ليحكم قادتها العسكريون مباشرة. هنا صار العسكر هم الحكام والساسة ولم تعد هناك نخب أخرى مسموح لها بالوصول إلى الحكم، إذ لم ينقلب العسكر على الساسة فقط، بل شكلوا نظم حكم تجعلهم في سدة الحكم مدى الحياة، حيث كانت هناك انقلابات عسكرية جرت ضد "نظم تشكلت عبر صناديق الانتخابات" وأخرى ضد نظم أوتوقراطية قديمة فحلت محلها نظم ديكتاتورية حديثة. وهناك أن الجيوش لم تنقلب وتصل للحكم كتعبير عن حالة صراع داخلي فقط، بل جر العديد من الانقلابات العسكرية بأفق صراعي ومضاد لسلطات وأدوات استعمارية حكمت بعض البلدان. والمهم في ظاهرة جيوش العالم الثالث، أن نمت وسادت الظاهرة والفكرة الوطنية داخل الجيوش وتشكلت عقائد قتالية مختلفة عن العقائد القتالية التي كان يفرضها على الجيوش القادة السياسيون الموالون للاحتلال، وأن الطابع المؤسسي في تلك الجيوش كان أعلى من الوضع المؤسسي في الحياة الاقتصادية وفي التبلور الفئوي الاجتماعي وفي إدارة السياسة وفق قواعد مختلفة عما كان سائدا في المجتمعات، فصارت هي النموذج الأرقى للتنظيم. وهنا ظهر بعد آخر حضاري في بناء الجيوش في المنطقة العربية الإسلامية، إذ العقائد القتالية ليست فكرا عسكريا في تحديد العدو ونمط التسليح فقط، بل في المفاهيم والرؤى العليا الحاكمة لبناء الإنسان وفكره أيضا. لم يكن الجيش العراقي فريدا في ما جرت الحال عليه بالنسبة لجيوش العالم الثالث ولا في الخصائص المكونة لنظيره من الجيوش في العالم العربي الإسلامي، لكنه حمل ميزات أساسية أخرى، إذ صار نمطا رائدا في بناء الوحدة الوطنية في العراق، وهو ظل كذلك حتى جرى حله على أيدي قوات الاحتلال، بل جرى حله لإنهاء الحالة الوطنية الموحدة. لقد مثل الجيش العراقي العنصر الأهم في بناء الوطنية العراقية والوحدة الوطنية الثابتة في مجتمع جرت فيه ضغوط مكثفة من الخارج والداخل لتحويله إلى حالة طائفية مفككة وكان عاملا أساسيا في بلورة الهوية الوطنية العراقية. والآن حين يجري بناء وتسليح الجيش العراقي المشكل ما بعد الاحتلال، فإن الأسئلة المحورية في اتجاهات بناء هذا الجيش تتعلق، بالرأي والرؤية في علاقته بظاهرة الاحتلال والدولة المحتلة أولا، وهي تدور حول دوره في ظل وجود بناء سياسي أو نظام سياسي قائم على الطائفية والمحاصصة لا على الوحدة الوطنية، وكيف سيواجه تلك الظاهرة ثانيا، وهي ترتبط ثالثا بفكرة الهوية الوطنية العربية الإسلامية في مواجهة محاولات تغيير هوية العراق وتحويله إلى "دولة شرق أوسطية" وفق الرؤية الأمريكية أو دولة تابعة للفكر والفهم الإيراني المذهبي حسب رؤية الموالين لإيران، أو أن يعود بالعراق إلى سابق هويته. وبمعنى آخر، فإن ما جرى في تشكيل الجيش العراقي الحالي ما بعد الاحتلال وحتى الآن ليس إلا إعادة لبناء جيش في دولة مستعمرة، كما جرت الحال خلال حقبة الاستعمار القديمة –لا أكثر ولا أقل-ليكون هو القوة والسند الدائم على الأرض لإبقاء الشعب العراقي تحت سطوة الاحتلال ولمساندة القوى السياسية المتعاونة مع الاحتلال، وأن تسليح الجيش العراقي لا يجري إلا ضمن هذا الإطار، أي لبناء جهاز دولة أشد قدرة وسطوة، بهدف قمع طموح الشعب العراقي للحرية والتحرر، ولمواجهة المقاومة الوطنية العراقية الشريفة.