11 سبتمبر 2025
تسجيليقال: إن الإنسان لا يعرف قيمة الشيء إلا عندما يفقده، وهذه حقيقة واقعة يتفق عليها جميع الناس.. تحدث في حياتهم بشكل مستمر، وينطبق هذا على الأشياء الصغيرة ابتداء من المنزل إلى الأشياء الكبيرة في الحياة، فنحن لا نعرف قيمة الكهرباء إلا إذا انقطعت، ولا قيمة السيارة إلا إذا تعطلت، ولا الإجازة إلا إذا انتهت، ولا نعرف قيمة الأعزاء إلا إذا فقدناهم. فكم من أشياء حولنا لا نعرف قيمتها إلا إذا بدأنا نبحث عنها، وقد نرميها بإرادتنا وعندما نعود نحتاجها نشعر بقيمتها ونندم على فقدها.. ومن أعظم الأمور التي شعرت بقيمتها عندما فقدتها هو العمل، وبما أنني كنت أؤمن بأن عمل المرأة يجب أن يكون لسنوات محددة فقط، تؤدي فيها واجبها نحو الوطن، تعطيه من جهدها وعلمها وتسهم بجزء من بنائه الحضاري، ثم تختار أن تعود للمنزل، وألا تفني زهرة شبابها في العمل، لتستمتع بحياتها وهي شابة كي لا تقضي عليها المشاكل الصحية الناتجة من الاستمرار في العمل واستهلاك كل سنوات العمر فيه. فقد سعيت سعيدة للحصول على البند المركزي، وشعرت بالفرحة تغمرني عندما أنهيت سنوات العمل وجلست في المنزل!! واختلطت السعادة بالندم رويداً رويدا، فتغيرت نظرتي وعرفت حينها قيمة العمل، الذي تبين لي أنه حياة وكيان بأكمله.. علم وثقافة، تجارب حقيقية يعيشها الإنسان ويستفيد منها، وخبرات يكتسبها نتيجة اختلاطه بمن حوله، قد تغير شخصيته تماما وتصقلها، كما أنه أحد النوافذ الواسعة على الحياة. ثم تحولت كل تلك الفرحة إلى بكاء يومي، وافتقاد شديد للعمل وصحبته، وأصبحت أستنفد كل راتبي في الخروج وشراء مالا أحتاجه، فقط لقتل الوقت والاستمتاع!! ومازلت أشعر بالملل والفراغ وعدم الرضا عن نفسي، لأنني مازلت قادرة على العطاء وفعل ما يحقق المنفعة ويرضي رغبة في داخلي، فاقترحت علي إحداهن فتح صالون للسيدات أو مقهى نسائي، ولكن هذا لا يتناسب وميولي واهتماماتي، ولست بارعة في التجارة، فلا أتخيل نفسي أنني أراجع كشفاً للحسابات التي لا أفقه منها شيئا، وقد يبرع فيها غيري ممن تتناسب وطموحاته وميوله. وعادت علاقتي برف الكتب الصغير الذي هجرته منذ زمن، عدت أقلب أوراقي ودفاتري القديمة وبعض كتاباتي وخواطري السابقة، ألملم شتاتها، أعيد صياغتها، وأكتبها برؤية جديدة. وشعرت بالحياة تدب فيَّ من جديد، ووجدت في الكتابة ضالتي التي كنت أبحث عنها، وعدت أشعر بالحنين ومتعة العودة للورقة والقلم، أكتب بنهم، تتزاحم الأفكار في رأسي ليل نهار، وأصبحت الساعات تمر كأنها ثوان، ووجدت نفسي.. نعم وجدت نفسي، وما أروع أن يجد الإنسان نفسه وكيانه في شيء يحبه ويهواه. ومما لاشك فيه أن الكثيرين رجالا ونساء بلا استثناء يعيشون معاناة وكآبة ما بعد العمل، ويفكرون في كيفية ملء الفراغ الذي خلفه غياب الوظيفة وما يصاحبها من متعة المشاركة مع الآخرين. لكن اكتشاف الإنسان لميوله وتنمية هواياته وصنع اهتمامات جديدة تخرجه عن الرتابة هو ما يحقق له جزءاً كبيراً من التوازن النفسي، فالإنسان يستطيع أن يبدع ويعطي طيلة حياته، فهذا لا يحتاج لوقت أو سن معين، ولكل إنسان جوانب إبداعية قد يكون لم يكتشفها بعد، فقط يقوي إرادة العطاء في نفسه، يستثمر وقته ويستغل خبراته السابقة، التي ستجعله حتما يختار الأصوب. إلى كل المتذمرين من العمل، مشاقه ومصاعبه: استمتعوا بكل دقيقة من وقتكم، فهذه أجمل سنوات العمر التي ستكتسبون منها أثرى الخبرات في الحياة. وإلى كل من يعيشون ملل ما بعد العمل: ستجدون حتماً ما يعيد لكم الحياة، فلا تغفلوا ما بكم من عطاء، وتجنبوا ما يخلفه الفراغ من مشاكل حياتية، اكتشفوا ما بأنفسكم من إبداع، ولا تدفنوا هواياتكم وطموحاتكم الجديدة التي أصبحت حرة دون ضغوط أو مسؤولية، فهي ما ستملأ حياتكم بالأمل والسعادة. [email protected]