14 سبتمبر 2025
تسجيلفقدَت الكويت، والرواية العربية، الأسبوع الماضي، واحداً من أقدَر الروائيين العرب، وهو الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، المُؤَصِل والمُجَدِّد، للرواية العربية، وصاحب التنوُّع في الصياغات الروائية، والمُزاوِج بين الخيال الخصب، والشخصية الرمزية، والرابط بين الأسطورة وقضايا العصر، ثمانية وسبعون عاماً قضاها الرجل في خدمة الأدب، ورصْد التحولات في مجتمعه، إضافة لمعاصرته القضايا السياسية، ولعل أهمها كارثة الاحتلال العراقي لدولة الكويت عام 1990، وتوظيفه الحدثَ ومزْجهُ مع شيء من سيرته داخل رواية ( في حضرة العنقاء والخِلّ الوفي)، حيث وجدَ بطلُ الرواية (مَنسي) نفسهُ مَنسيًا، في زحمة الأحداث، كونه من غير مُحدَّدي الجنسية، فيما تعارف عليه اسم (البدون)، وبين انخراطه في المقاومة ضد الاحتلال العراقي، وعذاباته مع الملف (المتآكل الحَواف)، الذي يحوي طلبَ الجنسية، وزياراته المُتعددة، مع والدته، لمقابلة لجنة الجنسية. يأخذنا الروائي إلى أجواء العمل الصحفي في منتصف الثمانينيات، وكذلك إلى فرقة (المسرح العربي)، ويذكر أسماء شخصيات حقيقية عاصرها، مثل: عبدالعزيز السريع، وفؤاد الشطي، وسليمان الياسين، ومبارك سويد، وغيرهم. ويصطدم بقضية زواج الكويتية من البدون، بعد أن تفجّرت قصة حب بينه وبين فتاة من إحدى الأُسر الكويتية، في حبكة درامية، أدّت إلى أسرهِ من قبل جنود الاحتلال العراقي وأخذه إلى الكويت، بعد أن وشى به أحدُ أقرباء الفتاة، ومن ثمّ إعادته جندياً كي يحارب المقاومة، التي ينتمي إليها. رواية في 386 صفحة، لا تتركها حتى تنتهي من قراءتها، كونها سلسةً وصادقة، وتفوح منها رائحةُ الوفاء للمكان وللإنسان. وكان الراحل قد بدأ حياته بكتابة القصة القصيرة في مجلة (الرائد) الكويتية، منذ عام 1963، حيث جمع تلك القصص القصيرة في مجموعة قصصية صدرت عام 1965 بعنوان (البقعة الداكنة). أما روايته الأولى فقد كانت باسم (كانت السماء زرقاء)، وأصدرها عام 1970، ثم توالت إصداراته الروائية، مثل: (الضفاف الأخرى)، و(الطيور والأصدقاء)، و(خطوة في الحلم)، و(دوائرة الاستحالة) و(ذاكرة الحضور)، و(إحداثيات زمن العزلة)، و(في حضرة العنقاء والخِلّ الوفي)، و(السبيليات) التي أصدرها عام 2017. استطاع إسماعيل فهد إسماعيل تحريك المياه الراكدة، التي كانت تغمر الرواية الكويتية، منذ صدور أول رواية عام 1948، بواسطة (فرحان راشد الفرحان)، تحت اسم (آلام صديق)، وقد اختلف حولها النقّاد، ووَسمَها بعضهم بأنها ليست رواية، بل قصة طويلة! ولكن النقاد في الكويت أيضًا، يرون أن النضج و(الحرفنة) لم يظهرا إلا في أعمال إسماعيل فهد إسماعيل، واعتبروا أن أعماله هي البداية الحقيقية للرواية الكويتية. ورغم قوة ورصانة كتابات إسماعيل فهد إسماعيل، واشتمالها على الصراعات الإنسانية، إلّا أنه عاش حياة معتدلة، متصالحاً مع نفسه، ولم يتدخَّل في الحروب الفكرية، سواء داخل الكويت أم خارجها، كما أنه يمتاز بهدوء الشخصية، وتأمُّلها لصيرورات الحياة، وأيضًا احترام الآخر، لدرجة أنه يُخجِلك وأنت في حضرته. قابلتُ الراحل في معرض الكويت عام 2017، حيث أهداني آخر رواياته (السبيليات)، وكان كعادته، باسم الثغر ويحمل عناءَ السنين السبع والسبعين على كاهله، كما يحمل وطأةَ المرض، وبالكاد تسمع صوته متهدّجاً، مُبدياً روحاً شفّافة، ورؤية عميقة لواقع الأدب. حصل الراحل على مجموعة من الجوائز، منها: جائزة الدولة التشجيعية عام 1989، وجائزة الدولة في الدراسات النقدية عام 2002، وجائزة سلطان العويس عام 2014، كما احتلّت روايته (السبيليات) القائمة القصيرة لجائزة (البوكر) عام 2017. أدخل الراحل عبارات وصِيغاً جديدة في الرواية العربية، خصوصاً ما جاء في رواية (الظهور الثاني لابن لعبون) ، حيث تقرأ توليفات وتركيبات غاية في الجمال، مثل: -أضَفتُ مُترسّمًا جدِّيتي -حَثَّ خَطْوهُ -واصلتْ بحِسِّ الاحتمال -أهبْتُ بي -شكّي باقٍ يُشاغلني -يُناورني عقلي -أعودُ أُنَبِهُني وغيرها من التوليفات التي تُضيف رونقاً وجمالاً للرواية، وتُجبرُك على التعرُّف على المزيد منها. أما في سباعية (إحداثيات زمن العزلة) فقد وثَّق معايشته لفترة الاحتلال العراقي لدولة الكويت، وتُعَّد من المراجع المهمّة المعاشة، المؤرِخة لذاك الوقت. رحل إسماعيل فهد إسماعيل، إلى ملكوت آخر، بعد أن ترك لنا وللأجيال إرثاً زاخراً من الأعمال الأدبية، التي تحتاج إلى دراسات علمية نقدية. كان حضوره دافئاً وخفيفاً، بقدرِ ما كان غيابه هادئاً ودون ضجيج. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.