20 سبتمبر 2025
تسجيلنواصل في الحلقة الثانية من حديثنا عن السلطان العادل المنسي أورنكزيب، وكيف تغلّب على إخوانه واتجاههم الإلحادي، التلفيقي بين الأديان... تغلُّبه على إخوانه بعد تنازل والده: عام 1657 مرض شاه جهان والد أورنكزيب مرض الموت. عُرف شاه جهان في التاريخ ببنائه تاج محل الذي بناه على قبر زوجته المحبوبة له، وشارك في بنائه 21 ألف شخص، واستمرت عملية البناء لـ 12 سنة. كان هذا البناء الأسطوري تعبيراً من الملك شاه جهان عن وفائه لزوجته التي أحبها كثيراً، ويُعدّ تاج محل اليوم من عجائب الدنيا السبع. ومع اشتداد مرضه تنازل شاه جهان عن المُلك، ليجلس في القلعة التي كان يسكن فيها نجله الأكبر (دارا شكوه). أخفى الأخير مرض والده عن أشقائه، ومن بينهم أورنكزيب الذي كان مشغولاً بقمع تمردات البراهتا، وهم أتباع ديانة هندية خاصة، إضافة إلى انشغاله في قمع تمرد للشيعة في حيدر آباد الدكن. وفي هذه الأثناء ظل (شكوه) يواصل تزوير خطابات باسم والده، ويرسلها لأشقائه ولعماله في السلطنة، من أجل تسيير المملكة بما يتوافق مع طموحاته ونيته بالاستحواذ على الحكم. كان شكوه يمثل التيار الإلحادي المعادي للاتجاه الإسلامي، الذي كان من أبرز رموزه أورنكزيب بالتنسيق مع حركة التجديد الإسلامي التي كان قد بدأها العلامة الشيخ أحمد السرهندي، مجدد الألف الثانية كما يطلق عليه مسلمو الهند، وتصاعد وتعزز نفوذ هذه الحركة لاحقاً، مما شكل تعاوناً بينهما دعماً لكليهما في وجه التيارات الإلحادية المدعومة من (شكوه)، ووالده المريض شاه جهان. لم تقتصر مشاركة الأب لـ شكوه دعماً معنوياً ورمزياً، وتسليماً للحكم فحسب، وإنما بدأ من خلال نفوذه على عماله بالدخول في تفاصيل التآمر على أورنكزيب، ووصل الأمر إلى توزيع سلاح سري على الخدم والعمال في قصر أورنكزيب للقضاء عليه والتخلص منه لصالح شكوه. لقد كان يرى في أورنكزيب مشروعاً مضاداً له ولوالده أكبر. كان أورنكزيب بدهائه وحكمته مطلعاً، ويتابع سراً كل ما يقوم به أخوه ووالده، ولكن لم يأت له على ذكر، حتى أمسك بكل الخيوط وكتب رسالة تفصيلية له بكل احترام وتقدير، يشرح له تآمره عليه، ولكن ظل مع هذا حتى آخر لحظة من حياة والده رفيقاً وعطوفاً ورحيماً به، مع حزم وكفاءة شهدت له. يقول المؤرخ المغولي محمد كاظم في كتابه عالم كير نامة عن الأمير شكوه: "ورسخ في قلبه الإلحاد والنظريات الإباحية التي كان يسميها تصوفاً، وولع بعادات الهنادكة، فكان على خطى جده أكبر". ولم تقتصر جهود شكوه على الجوانب العملية بحكم إمارته في ترسيخ دين أكبر، وإنما عززها بقدرته الفكرية حين ألف عدداً من الكتب ليدافع فيها عن مشروعه الإلحادي ودين جده أكبر. مع اجتماع السيف والقلم الإلحادي، كان على الطرف الآخر ممثلاً بالحركة الإحيائية التجديدية والأمير أورنكزيب أن يعزز صفوفه، وهو ما حصل، فقد دعم العالم المجاهد محمد السعيد نجل أحمد السرهندي الإمبراطور المغولي أورنكزيب في معاركه كلها ضد أشقائه وأبيه، موفّراً له بذلك حاضنة مجتمعية وسط مسلمي الهند، وحشد له العلماء خلفه في جميع معاركه التي خاضها ضد أشقائه الآخرين بقيادة شكوه. بينما كان الأب المريض حتى وهو على فراش الموت يواصل تآمره لصالح شكوه، ضد أورنكزيب. كان الاتجاهان، الإلحادي، والإسلامي التجديدي، يستعدان للمعركة الكبرى، وكان رمز الإلحاد كما ذكرنا الأمير شكوه وإخوانه، بينما يقود معسكر التجديد الإسلامي الأمير أورنكزيب ومن خلفه العلماء والحاضنة التي بدأت تتعاظم تأييداً ودعماً له، فكانت المعركة الفاصلة التي حددت معالم الهند، ومعالم الإمبراطورية المغولية عام 1069، وسبق المعركة انشقاق 15 ألف مقاتل سيخي بقيادة جاسوانت سنغ، عن جيش أورنكزيب، والتحقوا بجيش شكوه، وعلى الرغم من حزن أورنكزيب على هذا الانشقاق، لكن طمأنه قادته وعلماؤه أن ذلك خير من أن يظلوا بالجيش ويقاتلونه من الداخل. وحُسمت المعركة لصالح أورنكزيب، وكأداء لشكره الله على هذا الانتصار فقد تعهد بحفظ القرآن الكريم فكان له ذلك خلال عامين فقط. جهوده وإنجازاته في فترة حكمه: استمرت فترة حكم أورنكزيب لـ 49 عاماً، أي ما يقارب النصف قرن، تمكن خلالها بمساعدة علماء عصره من الحركة التجديدية، من إحداث تغييرات بنيوية وجوهرية في الإمبراطورية المغولية، ولأول مرة بدأ يظهر اهتمام بالدعوة إلى الله، بعد أن كان الدين أقرب ما يكون إلى وسيلة وواسطة للحكم. فسارع أورنكزيب بعد تسلمه السلطة إلى استبدال التاريخ الشمسي الذي سنّه جده أكبر متأسياً بعبّاد الشمس، إلى التاريخ الهجري تأسياً بهجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. وأرفقها بسلسلة تغييرات، فكان منها إلغاء منصب ملك الشعراء، حيث كان الشعراء يحصلون على المبالغ الضخمة من الإمبراطورية مقابل قصائد مديح كاذبة وتزلف ونفاق للأمراء. وألغى معها عيد النوروز الخاص بالفرس، واكتفى بعيديّ المسلمين الفطر والأضحى. وكانت ثمة ما يسمى بعبادة (روشن) وهي تحديق الناس لساعات في وجه الملوك، فألغاها، وحظرها، أما على صعيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فقد أعفى الناس من الضرائب والمكوث المفروضة عليهم، والتي كبّلتهم ودمرت اقتصادهم. وخطا خطوة مميزة على صعيد أوقاف المسلمين، حين أنعشها، وأوقف العديد من الأراضي لمصالح المسلمين، وقام بتشكيل شرطة للحسبة، وأمّر عليها العلامة مير زاهد الهروي المعروف يومها وسط العلماء. منذ توليه الإمبراطورية شنَّ حرباً على الموسيقى، نظراً لتفشيها بشكل مفرط خلال الفترة المغولية، وبعد توليه الإمبراطورية رأى حشداً يحملون جنازة وهم يبكون وينتحبون، فسأل عن صاحبها فقالوا له إنها آلات المعازف، فقال لهم: "أحسنوا دفنها وعزاءها". لكن يظل من الجهود الجبارة التي قام عليها في حياته تشكيله لجنة من العلماء، ومن بينهم الشيخ عبد الرحيم الدهلوي المؤرخ والصوفي المعروف، وهو والد العلامة شاه ولي الله الدهلوي صاحب كتاب (حجة الله البالغة)، حيث عكفت هذه اللجنة على تدوين (الفتاوى العالمكيرية) أو ما تسمى أحياناً بـ (الفتاوى الهندية)، لتكون بمثابة دستور عدلي للإمبراطورية على غرار المجلة العدلية العثمانية. وكان المشرف عليها العالم المعروف نظام الدين البرنهابوري، وتقع هذه الفتاوى في ستة مجلدات. أما الشيخ عبد الرحيم الدهلوي فهو من الوجوه العلمية البارزة كما ذكرنا، وواصل جهده على أرض الواقع بجانب عمله في لجنة الفتاوى العالمكيرية، فأسس مدرسة دينية باسم (رحيمية) وسط نيودلهي، تسلمها ابنه شاه ولي الله الدهلوي بعد وفاته، وعمره يومها لا يتعدى 17 عاماً بعد أن كان قد حفظ القرآن الكريم وهو ابن 15 سنة. استغل أورنكزيب في بداية سلطته شركة الهند الشرقية في قمع التمردات الداخلية، ولكن ما إن قويت شوكته حتى بدأ يحاربها، وُيضيّق عليها، وبرز ذلك في إغلاق مصانعها، وإلقاء كبار ضباطها في السجون، كما أجبرها على دفع تعويضات لمخالفات خطيرة وقعت فيها، ولاحق بعض ما أطلق عليهم قراصنة ومن بينهم رئيسها هنري أفري الذي وضع مكافأة لمن يأتي برأسه. كان من الصروح التي خلّفها وراءه بناؤه لمسجد باد شاهي في وسط لاهور، الذي بناه بشكل فاخر على الطراز المغولي الفريد، وجلب له الحجارة الخاصة من الهند، ويتسع المسجد لمائة ألف مصلٍ، وقد زرته حيث يرقد في باحته قبر الشاعر الإسلامي المعروف محمد إقبال، والذي توفي بعده بقرنين تقريباً. كان حريصاً رحمه الله على أكل الحلال، وعدم الاقتراب من خزانة الإمبراطورية، فلم يتقاضَ راتباً من خزانتها كما يقال، بل كان يصنع القلنسوات والطواقي ويبيعها، ليعيش منها، ومعها يكتب القرآن الكريم بخطه الجميل، ليقوم ببيعه، ويعيش عليه. فكانت حياته وعصره أعجوبة الأعاجيب، فبعد أن كان المألوف لدى الناس هو عيش الإمبراطور وأمرائه حياة البذخ واللهو، والشراب والنساء والحفلات، فوجئوا بشخصية مخالفة تماماً لما اعتادوا عليه وآباؤهم وأجدادهم. رحل أورنكزيب (آسر العالم) عن هذه الدنيا الفانية يوم الجمعة لـ 22 خلت من ذي القعدة 1118 الموافق لـ 20 فبراير/شباط 1707، ودفن في بلدة جلال آباد جنوبي الهند، لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يصلي صلاة الفجر على سجادته، وكان قد أوصى قبل وفاته بألاّ يُبنى على قبره كعادة ملوك المغول، وشدد على ألاّ يوضع في تابوت، وأن تُتجنب كل أشكال البدع أثناء جنازته. رحم الله سلطان العلماء العادلين، والخليفة الراشد السادس، فقد ترك ذكراً بين أهل الأرض.