14 سبتمبر 2025
تسجيللطالما روج رواد مدرسة شيكاغو الاقتصادية الأمريكية الذين يطلقون على أنفسهم "المدرسة الليبرالية الجديدة" فكرة أن الدولة لا يجب أن تتدخل في إدارة الشئون الاقتصادية بالبلاد، وإذا تدخلت فيكون ذلك في أضيق الحدود ومن أجل التنظيم فقط، ومن ثم فإنه لا يجب عليها أن تدير أو تتملك وإنما تترك هذه الأمور للقطاع الخاص .... إلا أن الواقع العملي بالدول الرأسمالية يفيد بغير ذلك.وقد يرى البعض أن ما قام به الرئيس الأمريكي أوباما "خلال فترة ولايته الأولى" من تدخل لإنقاذ بعض البنوك والشركات "التي كانت على وشك الانهيار المالي" في أعقاب الأزمة المالية العالمية وإقراضها ثم تحويل هذه القروض إلى مساهمات وزيادات في رؤوس أموال هذه الشركات ، بما يعنى تملك الدولة لمجموعة كبيرة من أصول العديد من البنوك والشركات ومن بينها سيتى جروب وجنرال موتورز و AIG وكرايزلر وغيرها الكثير، ما هى إلا خطوة مؤقتة سرعان ما سيتم التخلص من هذه الحصص وطرحها من جديد للبيع للقطاع الخاص.إلا أن الأمر يختلف كثيراً في دولة مثل فرنسا التي تدير الحكومة فيها حصصاً في 58 شركة من خلال الوكالة المتخصصة "APE" التي تم تأسيسها في عام 2004 بهدف رعاية ممتلكات الدولة في الحصص التي أبقت عليها من الشركات التي تم خصخصتها في فترة التسعينات من القرن الماضي والتي سبق تأميمها في الثمانينات من ذات القرن، وهي الوكالة المسؤولة عن إدارة أسهم بعض الشركات التي تملكها الدولة كـ إير فرانس ورينو وKLM و فرانس تيليكوم وغيرها، كما تبلغ القيمة السوقية لأكبر 12 شركة منها بالبورصة نحو 58 مليار يورو ، وقد بلغ صافي أرباح حصص الدولة في هذه الشركات الفرنسية نحو ثمانية مليارات يورو.وقد منح الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي صلاحيات واسعة لهذه الوكالة " APE" في إدارة الحصص التي تملكها الدولة بالشركات المختلفة ، وإن كان العديد من الخبراء الاقتصاديين الفرنسيين يؤكدون أن نفوذ وسيطرة الحكومة على الاقتصاد يتجاوز كثيراً ما تملكه من حصص في الشركات، ودليلهم في ذلك يتمثل في إعلان الحكومة في شهر أكتوبر الماضي عن تأسيس بنك جديد للاستثمارات الحكومية "BPI" تكون مهمته الأساسية ضخ الأموال من قبل الدولة في بعض المشروعات الجديدة الواعدة ومن ثم تملك حصصاً بها ، وقد منحت الحكومة الفرنسية لهذا البنك صلاحيات مطلقة فى دعم الشركات المتعثرة بشكل مؤقت بشرط قوتها الاقتصادية وتمتعها بجدوى اقتصادية ممتازة.وترى الحكومة الفرنسية أن بنك الاستثمارات الحكومية الجديد يمكنه إنشاء عناقيد من الشركات الصغيرة والمتوسطة، على غرار تجربة الشركات الألمانية ميتلستاند التي تلعب دوراً هاماً للغاية في تنمية الاقتصاد الألماني، ولعل في مقدمة ما قام به البنك الجديد هو شراء حصة مقدارها 6% من الشركة العملاقة للنقل بالحاويات "CMACGM" والتي تعد ثالث أكبر شركة حاويات في أوروبا، والتي تعرضت للكثير من الديون بسبب التراجع في سوق النقل البحري في أعقاب الأزمة المالية العالمية.وكانت الحكومة الفرنسية في شهر نوفمبر الماضي قد قدمت ضمانات قروض بمقدار سبعة مليارات يورو إلى شركة بيجو سيتروين للسيارات "PSA" وحصلت في مقابل ذلك على مقعد في مجلس إدارة الشركة مع تعهد بإيقاف توزيع عوائد المساهمين وكذا عدم إعادة الشركة لشراء أسهمها من البورصة خلال السنوات القادمة، مما أفزع الكثير من المساهمين بالشركة وأدى إلى خفض قيمة أسهمها بالبورصة، وذلك تخوفاً من أن تكون هذه الخطوة مقدمة لتأميم جزئي للشركة العريقة.وقد أقدمت الحكومة الألمانية على خطوات مماثلة لما قامت به الحكومة الفرنسية في تملك بعض الحصص بالشركات الواعدة وكذا الشركات المتعثرة التي لها جدوى اقتصادية متميزة ومستقبل جيد، لذا فقد قامت بزيادة حصتها في عدد من الشركات وفي مقدمتها شركة ايدز "EADS" لتصبح 15% مثلها في ذلك مثل حصة الحكومة الفرنسية .... هذا بخلاف دعم الحكومة الدائم للشركات الخاصة بغرض خفض معدلات البطالة وزيادة معدلات التشغيل وتجنب الآثار السلبية الخطيرة للأزمة المالية العالمية الراهنة على الاقتصاد الألماني.إلا أن هناك دولاً غربية أخرى كأسبانيا وإيطاليا واليونان قد قامت باتخاذ سياسات عكسية كالتوسع في عمليات الخصخصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية واستخدام حصيلة البيع في تمويل عجز الموازنة وخفض الديون السيادية.... إلا أنه يجب توضيح أن التجربة الفرنسية والألمانية في تملك الحصص بالشركات المختلفة إنما تتسم بالامتلاك طويل الأجل، وأنها تختلف كثيراً عن التجربة الأمريكية التي تمتلك حصصاً بالبنوك والشركات الخاصة ولكن في المدى القصير وبشكل مؤقت بهدف مساعدتها في الخروج من دائرة التعثر المالي على أن تطرح هذه الحصص من جديد للقطاع الخاص في فترات تالية، وهو ما يختلف بالطبع مع تلك الدول التي استثمرت الأزمة من أجل الترويج للمزيد من برامج الخصخصة وتفعيل دور وسيطرة القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية بالبلاد.