15 سبتمبر 2025
تسجيلقديما قيل إن أعمدة الحكم أربعة: الدين — العدالة — الشورى — الخزينة، ولما ضاعت أربعتها هبت ثورات شعوب المنطقة، لعلها تستدرك بعض ما فاتها من هذه الأربعة رويدا رويدا، وسنتحدث هنا عن العدل وتأصيله ودوره في استقرار الملك قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول فيها "إنها أجمع آية في القرآن للخير والشر" وروى البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن، أنه قرأها يوما ثم وقف، قال: إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا؛ ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه. لقد أمرنا الله فيها بخصال ثلاث من أهم خصال الخير؛ فأولها العدل، وهو أن يُعطي كل ذي حق حقه، فالعدل واجب على كل من استرعاه الله رعيّة من إمام وغيره وعدل الحكومة مع شعبها، فعليها أن تجلب له السعادة، وتبعد عنه أسباب الشقاء، وتوفر لكل طائفة من الشعب رقيها وتقدمها. وقد استفاض الكتاب العزيز في الحديث عن العدل فمن ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وقوله تعالى (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) وقوله تعالى (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) وقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَفَعَهُ قَالَ: "يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَإِقَامَةُ حَدٍّ فِي أَرْضٍ أَزْكَى لَهَا أَوْ أَنْفَعُ لَهَا مِنْ مَطَرٍ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته فالإمام الذى على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيّده وهو مسئول عنه فكلّكم راع وكلكم مسئول عن رعيّته» وسر هذه الاستفاضة في شقي الوحي عن هذا العمود من أعمدة الحكم هو أن العدل من أغلى وأسمى مقومات الحياة، ومبدأ أساسي دبر به رب الكون نظامه، وأسس عليه وجوده ودورانه، وهو رسالة رب الأرض والسماء، وتحقيقه واحد من مهمة الرسل والأنبياء، وهو وطيدة الحكم الصالح ودعامته المتينة، تطمئن إليه النفوس، وترتاح إليه الأفئدة، وبه تصان القيم، وتستقر المبادئ، ويتضاعف شعور المواطن بالانتماء إلى وطنه، وبه يعلو بناء الإنسان، وبه يصان دمه وماله وعرضه، وقديماً قيل: بالعدل ثبات الأشياء، وبالجور زوالها.قال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلّكم يترشّح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من له سيف مسلول، ومال مبذول؛ وعدل تطمئنّ إليه القلوب.. والعدل مظهر من مظاهر شدة السلطان، لا البطش، ولا الغازات المسيلة للدموع، ولا الرصاص الحي الذي يخترق الصدور العارية، ولا انتهاك الحرمات، ولا ترويع الآمنين، ولا قطع الأرزاق، ولا قطع الأعناق، ولا تشريد الناس عن أوطانهم، وتهجيرهم من مساكنهم، وإنما أبلغ مظهر وأحكم نظام هو ما قام على العدل.خطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إن للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا؛ فحائط الإسلام الحقّ وبابه العدل؛ ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان؛ وليس شدّة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسّوط، ولكن قضاء بالحقّ وأخذٌ بالعدل.وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عمّاله يستأذنه فى تحصين مدينة؛ فكتب إليه: حصّنها بالعدل ونقّ طريقها من الظلم. ونسب للاسكندر انه قال لجماعة من الهند: لم صارت شُرَط بلادكم قليلة؟ قالوا: لإعطائنا الحق من أنفسنا، ولعدل ملوكنا وحسن سيرتهم فينا. وقال قحطبة بن شبيب لأهل خراسان يستنهضهم لقتال عدوهم بلا هيبة فالهيبة تجر الخيبة.. قال: يا أهل خراسان: هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم وسلط عليهم أذل أمة، كانت في الأرض عندهم؛ فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقوا أولادهم.العدل حارس الملك، ومدبر فلك الفلك، وغيث البلاد، وغوث العباد، وخصب الزمان، ومظنة الأمان. وكبت الحاسد، وصلاح الفاسد، وملجأ الحائر ومرشد السائر، وناصر المظلوم ومجيب السائل والمحروم، به تطمئن القلوب، وتنجلي غياهب الكروب، ويرغم أنف الشيطان، وترتفع به قواعد السلطان. عليه مدار السياسة، وهو مغن عن النجدة والحماسة: عن العدل لا تعدل وكن متيقظاً .. وحكمك بين الناس فليك بالقسطوبالرفق عاملهم وأحسن إليهم .. ولا تبدلن وجه الرضا منك بالسخطوحل بدر الحق جيد نظامهم .. وراقب إله الخلق في الحل والربط وبضدها تتميز الأشياء، ولهذا مع الترغيب في العدل يجمل الترهيب من الظلم لذا نقول إياك والظلم فإنه ظلمات، وداع إلى تغيير النعمة وتعجيل النقمة. يقرب المحن ويسبب الإحن، ويخلي الديار، ويمحق الأعمار، ويعفي الآثار، ويوجب المثوى في النار، وينقص العدد، ويسرع يتم الولد، ويذهب المال، ويتعب البال، ويجلب العقاب، ويضرب الرقاب، ويقص الجناح، ويخص بالإثم والجناح، والمظلوم أنفاسه متعلقة بالسحاب، ودعوته ليس بينها وبين الله حجاب: كن منصفاً واسلك سبيل التقى .. فالبغي ليل جنحه مظلمواجتنب الظلم ولا تأته .. والله لا يفلح من يظلم هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل، وللحديث صلة بحول الله وقوته.