18 سبتمبر 2025
تسجيلكُفي الملامَ وعلّليني... فالشكُّ أودى باليقينِ... وتناهبتْ كبدي الشجونَ... فمَنْ مُجيري؟ مِن شجوني... وأمضّني الداءُ العياء... فمَنْ مُغيثي؟ مَنْ معيني؟... هكذا تكلم الشاعر الكويتي فهد العسكر وهو يروي معاناته وألمه ويشكو وحدته وعزلته بعد أن لفظه مجتمعه وأعرض عنه وفرض عليه عزلة اجتماعية ووحدة قاتله، ولقد وافت المنية الشاعر العسكر المولود في الكويت في عام 1917 وهو يناهز الرابعة والثلاثين من عمره، بعد أن كف بصره وأنهكته الأمراض، ولم تكن لتصلنا أشعاره وسيرته ورحلة معاناته بعد ان أحرقت قصاصات أوراقه، لولا أن صديقه الشاعر عبدالله زكريا الأنصاري استدرك الأمر وجمع شتات ما استطاع أن يجمعه من بقايا أشعاره وضمنها كتابا يتناول سيرة الشاعر العسكر أصدر في عام 1956. إن المعاناة التي عاشها فهد العسكر كانت نتاجاً حتمياً لرفضه للمألوف وخروجه عن السياق الاجتماعي الذي كان يعتبر في حينها ثوابتَ لا تُمَسُّ، فضلاً عن تساؤلاته وحيرته التي اختلجت في نفسه وبثها في أشعاره وخطها في قراطيسه البالية، الأمر الذي جرعه قسوة الوحدة والرفض والإقصاء، ودفع ثمنها من شبابه، فلم يستوعب المجتمع في حينها ما يتفوه به الشاعر فهد العسكر ولم يكن مستعداً للتعامل مع تساؤلاته وشكوكه ودعواه للتغيير والاصلاح تعاملاً موضوعياً، وقد سطر العسكر ردود الأفعال التي تصدت له في ذلك الوقت وصاغها شعراً يبين المدى التي آلت إليه الأمور قائلاً: رقصوا على نوحي وإعوالي وأطربهم أنيني وتحاملوا ظلماً وعدواناً علي وأرهقوني.. فعرفتهم ونبذتهم لكنهم لم يعرفوني.. وهناك منهم معشر أف لهم كم ضايقوني.. هذا رماني بالشذوذ وذا رماني بالجنونِ.. وهناك منهم من رماني بالخلاعةِ والمجونِ.. وتطاولَ المتعصّبونَ وما كَفرتُ وكفّروني.. وفي تلك الأبيات يصرّح شاعرنا العسكر انه لم يكفر، ورغم ذلك تم تكفيره، ولنا أن نتصور ما يستتبع التكفير من نبذ وجحود وإقصاء في يومنا الحالي، فكيف به وهو الذي عاش في حقبة لم يكن فيها الاختلاف أمراً مقبولاً أو مطروحاً حتى، ليواجه وحده طوفاناً عاتياً لا يُبقي ولا يذر. لم يكن لفهد العسكر أن يتجرع الألم ويواجه المعاناة التي واجهها لو أنه ولد في زمان غير زمانه، وعلى افتراض أنه عاش بيننا الآن لربما كان أديباً مخضرماً وشاعراً مقدّراً، وكان من الممكن التعامل مع فكره بطريقة مختلفة والتعاطي معها بشكل أفضل، ما يعطينا دليلاً على أن ثوابت المجتمع نسبية ومتغيرة مع تغير الزمان والمكان، وأن رقعة الثوابت قد تتسع وتضيق تبعاً لظروف عديدة في حين أن تلك الثوابت في حقيقتها قد تكون مقتصرة على جوانب محددة، سواءً فيما يتعلق بالدين أو غيره. ولكن.. هل يمكنننا اعتبار تجربة فهد العسكر كتجربة جاءت في سياق غير متسق مع الزمن؟ وبعبارة أخرى، هل يصح القول إن الشاعر فهد العسكر كان سابقاً لزمانه، أم أن السياق الذي مر به العسكر لازال يتكرر ولكن بصور مختلفة؟ تعاني مجتمعاتنا من عدم القدرة على التعامل مع السياقات الفكرية الخارجة عن المألوف، فضلاً عن صعوبة التعامل مع التساؤلات الكبرى والشكوك، واعتبارها خروجاً على الثوابت والقيم، دون النظر بتفحص للتاريخ واستقاء العبر منه، وإدراك النسبية التي تؤطر تلك الثوابت، وعلى الرغم من أننا نعيش حياة متقدمة ومتطورة، إلا أن المنظومة الفكرية التي تغلب على مجتمعاتنا لم تأخذ بالأسباب الموضوعية للتقدم، الأمر الذي يولد فجوة بين الواقع المادي والواقع الفكري للحضارة. لقد أدى هذا الوضع إلى جمود فكري وخوف من فقدان المكتسبات التي تسيطر على تصوراتنا، واستخدام الموعظة في حين، والتقريع والتحذير في أحايين كثيرة لمواجهة الأسئلة والتي يطرحها الشباب في مسائل حساسة نتيجة احتكاكهم بالآخر، والاطلاع على أفكار لم يعهدوها في مجتمعهم، ومع عدم سعينا لتجاوز تلك الإشكالية سنلجأ إلى الانكماش والانكفاء نحو الداخل ولن نحاول تجاوز تلك العقبة ومواجهة الانفتاح الذي نعيشه ويفرض نفسه علينا فرضاً ولا مناص لنا منه، الأمر الذي يتطلب منا الاستعداد والمواجهة عوضا عن التقهقر والانغلاق. من الإشكاليات التي تواجه التجربة الفكرية في مجتمعاتنا الإشكالية المتمثلة في القدرة الكبيرة على التدمير الذاتي، وأعني بها وجود ما يشبه الآلية التي تقوم بتدمير أي محاولة لتصحيح مسار النظام واعتبار تلك المحاولة بمثابة "برمجة خبيثة"، كما في نظم الحاسوب أو"الفيروس" بالنسبة للجهاز المناعي في جسم الإنسان، الأمر الذي يؤدي لاستجابة فورية لمقاومة ذلك "الدخيل" وإقصاء من ينتقد المألوف أو من يمتلك رؤى تخالف آراء المجتمع، وتحجيمه بكافة الوسائل وإخراجه من السياق المجتمعي، وهو ما يحرم المجتمع من نقد الذات وتصحيح المسار، كما تؤدي تلك المعضلة إلى شلل المجتمع وحرمانه من تحديث نفسه وتجاوز عقباته والانفتاح على الآراء إلى أقصى حد واستيعابها والتعامل معها، كما ينتج هذا الواقع أفراداً يخشون الاختلاف ويسعون للاتساق مع المجتمع مهما كانت أخطاؤه خوفاً من الإقصاء والنبذ. وبجانب ذلك الخوف من الإقصاء والنبذ وخشية الإفصاح عن الآراء غير المتسقة مع المجتمع، وما يترتب على ذلك من جمود، تتبلور إشكالية أخرى أمام هذا الواقع ذات وجهين، أحدهما أقبح من الآخر، الأول أننا سنواجه حالات من التمرد والخروج عن السياق الاجتماعي ولكن بصورة ممجوجة غير ناضجة، وهو أمر مفهوم وغير مستغرب، فالضغط لا يولد سوى الانفجار، أما الوجه الآخر فيتمثل في سعي الآخر لتغييرنا وخلخلة ثوابتنا والتشكيك فيها والحط من مكانتها عبر أساليب كثيرة ومتنوعة. وأحد أهم تلك الأساليب هي دعم المتمردين من مجتمعنا وإعلاء شأنهم وتلميع صورتهم،"وهو ما نلاحظه بكثرة" وفرض التغيير علينا فرضاً، وبطبيعة الحال فإن التغيير عبر تلك الأساليب لن يعطينا نتائج تؤدي لنضوج التجربة والخروج من حالة الجمود ولن تقذف حجراً في المياه الراكدة، بل ستنتج تغييراً مشوهاً وواقعاً ممسوخاً دون أن نلحظ ذلك. عندما نستقي الدروس من التاريخ ونعيد الاعتبار لمن أقصاهم المجتمع في حينها ونظن جازمين أنه لم ينصفهم ونسرع في الحكم عليهم، لا نلحظ أننا نعيد الكرة ونمارس ما مارسوه مع المختلفين والخارجين عن المألوف، ولا ندرك أن الوضع ما يزال مستمراً. لقد مرت تجربتنا الفكرية بمآس ٍ عديدة دون التوقف عندها ومراجعتها، و آلية التدمير الذاتي لازالت فعالة، وقد مورست على كل من تجرأ على التغيير وتحقيق النقد الذاتي وتقييم التجربة، والشواهد لدينا كثيرة بدءاً بالعلماء الذين نفخر بأن الغرب استقى منهم علومه وأسس لنهضته، في حين أنهم نُبذوا و أُخرجوا من سياق مجتمعهم في وقتهم، مروراً بمن حاول قدح شرارة التجديد كأمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم كثيرون انتهاءً بالشاعر فهد العسكر. ينبغي أن ندرك أنه ليس من الضرورة بمكان أن نوافق ونتفق مع من يختلف معنا أو من ينتقد الثوابت النسبية، ولكن لابد لنا من تغيير طريقتنا في التعامل مع هذا الواقع وتغيير تصوراتنا عن الثوابت وإدراك أنها نسبية ومتغيرة، وأن نتعاطى مع الشكوك كأمر إيجابي يُحيي المجتمع ويخرجه من حالة الجمود ويجنبه تكرار الأخطاء، وليست كلعنه ينبغي التحذير منها وتجريمها، فلولا الشكوك لما تساءل الأنبياء والصالحون عن جدوى ما تمارسه أقوامهم من ضلال وشرك، ودون تحقيق النقد الذاتي وتفعيل الشك المنهجي لتحقيق المعرفة سنصبح كمن قال "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ".