19 سبتمبر 2025

تسجيل

المجتمع والنخب المُبدعة

06 ديسمبر 2022

أطلق فيلسوف التاريخ البريطاني أرنولد توينبي مصطلحه على نخب المجتمعات بالنخب المُبدعة، لدورها في حالة الإبداع الخلّاقة التي تُقلع المجتمعات منها، فهي خميرة المجتمعات والحضارات، وهي الأساس لبناء الدول، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أطلق عليها من قبل «الرواحل».. حين قال عليه الصلاة والسلام: «الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة»، وفي كثير من البلدات والقرى والمدن نرى شخصيات معينة ومحددة هي التي تحمل همَّ أحيائها وقراها ومدنها، ويكبر الهمّ المرادف لكلمة الهِّمة بكبر المسؤولية جغرافياً وحتى تاريخياً، ولذا نرى شخصيات تاريخية حفرت اسمها في التاريخ، وذلك للعبء الذي تحملته، والمسؤولية التي تقلدتها، فكانت بالفعل رواحل مناطقها. حين كتب القائد سعد بن أبي وقاص لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يطلب منه مدداً بأربعة آلاف مقاتل لمعركة العراق، أرسل الخليفة له أربعة أشخاص فقط، بينهم القعقاع بن عمرو التميمي، وقال له إن كل واحد فيهم بألف، وقد كانوا كذلك قولاً وفعلاً، فهم الرواحل العسكرية والفكرية والمجتمعية، وهم طليعة الأمة، وطليعة المجتمع ونخبه، ولذلك كثيراً ما نرى في أحاديث النبي عليه السلام خرجت أنا وأبو بكر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وقليل غيرهم، لأن النخب المبدعة والرواحل والطلائع التي حملت همّ الأمة حاضراً ومستقبلاً هم هؤلاء وغيرهم، وقد كان صحابة رسول الله عليه الصلاة السلام كلهم يحملون هماّ، ولكن ظلوا طبقات، وثمة طبقات عليا وطبقات أعلى، ولذلك كان منهم الخلفاء الراشدون، ومنهم المبشرون بالجنة ومنهم أهل بيعة الرضوان وهكذا. وكما قال الفرزدق: «إنّا لنعرف سجدة الشعر كما تعرفون السجدة من القرآن. فكما أن الشعر يبلغ مبلغاً عظيماً في قوة المعنى وجودة التعبير، فيكون حكمة حقيقية كما قال عنه نبينا عليه السلام: «إن من الشعر لحكمة». فإن أهل علم الرجال والطبقات يعرفون الرجال من خلال سجدة أفعالهم وبركات أعمالهم، وإنجازاتهم الحافلة التي أكرموا بها في حياتهم العريضة، وليست الطويلة زمناً، وإنما الحافلة بالإنجازات والثمرات والإيجابيات، ولذلك كان السلف يسألون الله العمر العريض، وليس الطويل. وتبقى الهموم بقدر الهمم، فكلما كبر همّ الشخص، عظمت همته، وكما قال الشاعر: إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجساد ولذا كان يُقال: إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ولم يفخر، فليس له افتخار لقد حفل التاريخ الإسلامي بشخصيات كانت أعمارها قليلة، فأسامة بن زيد رضي الله عنه أمّره الرسول عليه السلام على أول جيش وجهه إلى الشام، وضمنه كبار الصحابة رضوان الله عليه كأبي بكر وعمر، ومن قبله قام معوّذ وعفراء رضي الله عنهما وعمرهما لا يتعدّى الخامسة عشر عاماً بقتل فرعون الأمة أبي جهل، وسار الصحابة والتابعون على هذا النهج، حيث كان قائد فتح السند والهند محمد بن القاسم الثقفي لا يتجاوز السبعة عشر عاماً، وقال فيه الشاعر: قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذاك سؤدداً من مولد وهكذا كانت سيرة محمد الفاتح فاتح القسطنطينية حيث لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاماً حين فتح القسطنطينية، فأثنى النبي عليه السلام عليه وعلى فعله «فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»، كل ذلك عكس حقيقة مهمة وجلية وهي أن هذا الدين يُربي عظماء وشخصيات رواحل، وقد اختصر ذلك كله الإمام القرّافي حين قال: «لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات النبوة»، فهم دليل على قوة المنهج، وعلى قوة القدوة، ولذا كانوا يقولون يعرف العالم بتلامذته وحين توفي الإمام ابن تيمية قالوا انظروا إلى تلامذته فوجدوا فيهم أمثال ابن القيم الجوزية والذهبي وابن كثير وآخرين، فكيف بمن نظر إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم أسقطوا خلال فترة زمنية قياسية أعظم إمبراطوريتين، فضلاً عن اندياح الإسلام جغرافياً وفكرياً.