12 سبتمبر 2025

تسجيل

انتفاضة الذكرى

06 ديسمبر 2011

مهما تشغلنا الحياة، ومهما نغوص في أحداثها وتأخذنا أيامها، فلا بد من لحظة الشوق، لحظة انتفاضة الذكرى وإلحاح الحنين، التي قد تداهمنا في أي مكان وأي زمان بلا استئذان، تدوس بقوة على كل قوة فينا، فنشعر لحظتها كم نحن ضعفاء أمام الشوق، يذلنا الشوق الذي في داخلنا فنشعر بقوة احتياجنا لحظتها لكلمة أو لمسة، لنظرة فقط نلتقي بها من نحب، لحظة ندفع العمر كله ثمنا لها. وفي قصة روسية قديمة إن رجلا قرر أن يهاجر من بلدته، لكنه عندما حانت لحظة الرحيل ووقف على نهر الفولجا انتفضت جوانحه، وأخذ يستعيد ذكريات حياته كلها على ضفافه، وخاف لحظتها من هجمات الشوق إلى مرتعه، فكان خوفه من أن يكتوي بنار هذا الشوق هو ما جعله يتراجع عن قرار الهجرة ويعود إلى بلدته في النهاية. فمن رحيل أو اغتراب أو غياب، عندما يتسرب من أيدينا من نحبهم تهاجمنا لحظة الشوق كالمارد المتخفي، أو كالطوفان الذي يجتاح قلوبنا، أو كاللهيب الذي يجعلها تحترق بإحساس الشوق الرهيب، بالاحتياج لمن نحبه في تلك اللحظة، فتنحدر دموعنا علها تطفئ شيئا من تلك النار التي تختبئ بين الجوانح، لتظل تشن هجومها القاسي علينا ولا تكف عن ذلك، وكلما مرت بنا الأيام واعتقدنا أن النسيان قد أتى على ما بداخلنا من شوق وحوله إلى رماد، هاجمتنا انتفاضة الذكرى مرة أخرى، لنرى الحقيقة المرة بعد كل مرة، بأن الشوق في حالة ازدياد، وأن الفراغ الذي خلفه مَن غاب عن عيوننا أكبر مما نتصور، فنقف مذهولين أمام كمية حب وشوق لا يمكن وصفها، نحاول أن ندسها بين الضلوع كي لا تعود. تأثرت عندما دخلت في أحد المرات إلى غرفة الممرضات بأحد المستشفيات، فوجدت إحداهن والتي كانت منذ دقائق فقط في قمة إنشغالها في العمل، وهي تبكي بحرقة بينما زميلاتها تحاولن التخفيف عنها بكلمات عن الحياة والصبر، أراها أحيانا تؤلم اكثر، وهي تمسك بيدها صورة صغيرة تنظر إليها وتسترسل في البكاء، وتتمتم بأنها تشتاق إليه وتعاني وحشة رحيله، فقالت لي زميلتها بأنها تبكي ابنها الذي رحل منذ ثمان سنوات. فعرفت لحظتها أنه المارد، إنه اجتياح الشوق الذي يأتينا بغتة، فيزلزلنا ويقهرنا ويحرقنا، هو نفسه الذي يحولني في لحظة إلى طفلة صغيرة تبكي بكاء احتياج الأطفال شوقا لأمها وأبيها، لا يفرق وقتها إن كنا وحدنا أو منشغلين بين آلاف البشر، وتذكرت الطالب الذي لا يتجاوز العاشرة عندما دخلت الفصل يوما فوجدته يبكي بين زملائه بقوة، وعندما سألته عن سبب بكائه قال: (أريد أبي.. لقد اشتقت إليه)، وكان والده قد توفى قبل ثلاث سنوات، وتألمت في داخلي عليه وحدثت نفسي بأسى، كم هو صغير وكم مبكرا عليه أن تباغت حياته هجمات الشوق. الشوق الذي يستطيع أن يغزو داخلنا، يضعفنا ويهدر دموعنا، ينبش بقوة كل الحنين الذي بداخلنا ويجعلنا نتساءل في هول، أيعقل أننا لن نراهم ثانية؟ هل حقا قد انتهت كل حلقات الوصل بيننا وبينهم؟ نشعر أننا نريد أن نراهم بشدة الآن في هذه اللحظة، نريدهم ولا نريد شيئا غيرهم. لكل مَن فرق القدر بينه وبين مَن يحب، مَن رحل ومَن اغترب ومَن غاب، ولأن القلب يعجز عن صنع أسلحة مضادة لغارة الشوق، ومع مرور العمر فلا شيء غير الاعتياد على تحمل انتفاضة الذكرى. ودائما.. نار الشوق لا تنطفئ، ولا تصبح رمادا. [email protected]