29 أكتوبر 2025

تسجيل

هنا صوت لندن..

06 نوفمبر 2023

أخيرا أعود إلى لندن بعد غياب 25 عاما.. لم يتغير شيء.. لم يتغيّر سواي لم تكبر لندن كثيرا.. فهي منذ عرفناها وقبل أن نعرفها قد بلغت سن العجائز، هذا كامبرلاند الذي سكنته وأنا في عز الشباب.. في وقت كانت فيه لندن مثلي بهية ومشرقة مثل خدود ديانا وهي تعيش في وفاق تام مع تشارلز.. وتلك هي الهايد بارك كما تركتها متألقة.. أشجارها ما زالت تستمع باهتمام لآهات الجالسين في ظلالها.. هذه المدينة العجوز التي أسرت العالم مازالت بذات الطعم واللون والرائحة.. «أجمل مدينة عربية» كما قال نزار. لكني الآن أقل شغفاً وأكثر زهدا في الاكتشاف.. لا شيء سوى تتبع أحوال الأدباء العرب الذين سكنوا هذه المدينة هربا من أوطانهم، وجمعتني مع بعضهم حوارات أدبية، أطمع أن تعيد لي شيئا من شغف الحب الذي خبا في داخلي.. زرت سعاد الصباح في منزلها الريفي الجميل.. في (ريدنق) تأملت (لندن آي) التي تبدو في السماء مثل أرجوحة وسط غيمة ثم وقفت على الجسر الشهير في مدينة الضباب أتأمل نهر (التيمز) الذي كتب عنه أكبر الأدباء.. أدباء العرب الذين حملوا غربتهم واحزانهم ودخلوا الى سحر شكسبير. وأثرياء العرب الذين ركبوا يخوتهم وجاءوا إلى سحر مدينة الضباب.. ضباب المشاعر وًضباب المواقف. والسياسيين العرب الذين مازالت ملفاتهم ضمن تركة الملكة الراحلة إليزابيث. وظننت أن لندن ستسرق قلبي مثلما سرقت قلب سعاد الصباح ونزار قباني وغازي القصيبي.. أو أن تخبئني في أحضانها مثلما خبّأت أحمد مطر.. وأحاول أن أكون حذرا من طيف أي جميلة احترفت خطف الأحاسيس. هذه لندن ياصديق الشعر.. غواية الحب والحرب.. ومازالت عالقة يبطراف شوارعها ذكرى عجوز تجاوزت التسعين تربعت على عرش خمسين بلدا في العالم.. زمنا طويلا، أطول مما تتوقع الجميع.. استسلم لها يا غريب.. لندن ستسرقك حتماً.. مثلما سرقت قبلك قلوب غادة السمان، وسعدي يوسف وادوارد سعيد. أغمضت عيني بانتظار نشوة السرقة العاطفية لكنها بدلا من أن تسرق قلبي، سرقت جيبي! ما إن التقطت صورة في منتصف الجسر وعدّلت شنطتي (الكروس) على كتفي.. حتى وجدتها فارغة! لقد اختفت منها محفظتي بكل ما فيها من هويات وبطاقات ومصروف. تذكرت أنك أيتها المدينة الرمادية العريقة.. تسرقين التاريخ والقلوب والجيوب.. وتذكرت صوت صديقي القديم وهو يتصل يخبرني أنه سيزورني في الفندق مع محام متخصص وخبير سيشرح له طريقة خاصة في الحصول على ميزة إقامة رجال الأعمال.. لندن لم تخطف قلبي ولم تعطني هوية.. بل سرقت هويتي..! ما أصعب سرقة بطاقة رجل خاض معركة طويلة ومؤلمة مع الحب ومع الهوية.. ومع الوطن!