14 سبتمبر 2025

تسجيل

«مثايل» الأخلاق.. في قصائد العشاق!

23 مايو 2024

عندما أسرف (طرفة بن العبد) في شرب الخمر، ولم يعد يرتدع بسبب غياب عقله عن تصرفات لا تليق بمجتمعه.. قررت القبيلة طرده، لأنه تجاوز العُرف وخرج عن حدود الحشمة والحياء.. وقد صوّر ذلك في قوله: ومازال تَشْرَابيِ الخُمورَ، ولذَّّتي وبَيْعي وإنفاقي طَريفي ومُتْلَدي إلى أن تَحامتني العشيرةُ كلُّها وأُُفْرِدْتُ إِفرادَ البَعيرِ المُعَبّدِ ويظن بعض المبدعين أن إبداعهم يسمح لهم بالخروج عن المألوف وكسر القيود الأخلاقية. بينما من مهمات الثّقافة أن توازن بين الإنسان والطّبيعة، وتؤالف بينه وبين المجتمع، وبينه وبين القيم الرّوحية والإنسانية، ومن مهماتها أيضاً أن تكشف غايات الأخلاق وتتبناها، ثم تتبنى القيم التي تنتشل الفرد من الاستسلام لرغباته التي تتعارض مع مصالح المجتمع ومتطلبات المثل العليا.. وعندما يحدد المجتمع نظامه الأخلاقي.. يكون قد كشف عن غاياته الكبرى، وعلى المثقف حينها أن يحدد الوسائل التي تؤدي إلى تلك الغايات. وقد حضرت حتى الآن ثلاث حلقات من مسابقة (مثايل) التي تقيمها وزارة الثقافة في قطر.. ولفت نظري أنها تختلف عن موجة المسابقات المقامة للشعر (الشعبي أو الفصيح) وسر اختلافها هو مضمونها وغاياتها التي تركز على فكرة (محتوى القصيدة الأخلاقي) فيتم تحديد موضوع القصيدة من قبل إدارة المسابقة.. والموضوع لا يخرج عن القيم العليا مثل: الصدق، التغافل، الإحسان.. وما شابهها من معان سامية راقية. وتلعب الثقافة دوراً محوريا في توجيه المجتمع لتكون في دور القائد، متى ما كانت منتمية إلى أخلاقيات العمل الإنساني، ومتطلبات الجهد الثقافي الرصين، لتصبح هي الحاكم المتصرّف.. أما حين يتم تمييعها.. سيبدأ المجتمع الانشغال بالهوامش والقشور.. فيتصدّر أهل التّفاهة لأنهم يجيدون لعبة الإغواء والتشويق والإبهار ولا يتورعون عن الكذب والتزييف.. فيسيطرون على الإعلام. ولم يكن للعرب أن ينهجوا منهج الشعر إلا لغرض تمجيد مآثرهم النبيلة وهزّ أبنائهم إليها.. فحين أوجدوا الأوزان والقوافي لم يكن لهم هدف سوى التغني بمكارم أخلاقهم. لذلك نجد الشّعر قد احتفى - منذ إشعاعاته الأولى - بالمثل العليا، وسعى إلى تجسيد القيم الأخلاقية الّتي تظهر في سلوك النّاس ومواقفهم كنوع من الترويج لهذه القيم وغرسها في قلوب الأجيال. وتتجلى الأخلاق في الفعل الإنساني اليومي من خلال ردود فعله وأقواله وأفكاره وعلاقاته.. ليأتي الشعر من شأن الأسمى منها فيقوم الشاعر ليمدح الملك بأجلّ ما فيه من خصال، ويرثي الفقيد بأطيب ما تركه من مآثر.. ويصف الحبيبة بأجمل وأنبل صفاتها.. لتكون هذه الساحة هي ملعبه المفضّل.. ومجاله الرحب لينشد مدحا وفخرا ورثاء معبّراً عن النفّوس النفيسة بتجلياتها الأعلى، محاولاً اللحاق بانطلاق الرّوح المتطلعة إلى الكمال، الجانحة إلى الخير، بلغته الجماليّة الصحيحة. وهكذا لا يكون الإنسان إنسانا حقيقيا إلا بالأخلاق، وكلما سمت أخلاقه سمت نفسه.. وارتفعت في مراقي السمو مبتعدة عن وحل الطين حيث تكوينه السفلي ليصل الى معارج الروح حيث النفخة الإلهية الطاهرة. وقد جاءت الرسالة الحنفية لتنتشل الإنسان من وعورة الطريق الذي يسير فيه وتجنّبه المهالك والأشواك والهاوية ثم تسحبه إلى الطريق القويم.. وتجعل من وسائله التعبيرية حالة غناء بالأخلاق حباً لها واحتراماً وانحيازاً لها.. لأنها من مهمات الدين الانشغال بالقضية الأخلاقية ودفع الشعر ليكون شعورا يوافق الفطرة بما فيها من مكارم وسمو. وقد تصور البعض أن قضية الالتزام الأخلاقي في الشّعر العربيّ قضية ثانوية على اعتبار أن المهم هو الإبداع بصرف النظر عن محتواه، حتى تحولت أشعار (هؤلاء البعض) إلى ما يشبه العلب الجميلة المزركشة التي تحتوي أنواع السموم وأفتك الأمراض.. وتحولت كتاباتهم إلى شهوانية معلبة بزخارف اللغة أو أفكار منحرفة مخبوءة بين أسطر الرمز، مستدلين على ذلك ببعض معلقة امرئ القيس دون البعض الآخر، متغافلين عن مئات القصائد وربما الآلاف التي تغنت بمكارم الأخلاق، ومتناسين أيضا أن حياة العرب في الجاهلية شابتها قضايا النهب والقتل والزنا والشراب، والسلب والثأر؛ نظراً لغياب القانون؛ حتى أن معيار الحكم النّقدي لم يكن يأخذ بنظر الاعتبار الجانب الأخلاقي، وإنّما كان ينظر إليه نظرة فنيّة خالصة. ومنذ أن أشرقت شمس الإسلام وجّه أنظار المعلمين والدّارسين والباحثين، إلى ما يجب أن يحتويه الإبداع ويحثّ عليه من تعاليم تنبع من منبع منهج النبوة.. ويضيء من مشكاتها. فشكرا لوزارة الثقافة التي ألهمتنا هذه المعاني.. وشكرا لفريق عمل (مثايل) الذي أخلص وأبدع في الأداء.