10 سبتمبر 2025
تسجيلالخريف في لندن صريح واضح المعالم لا يختبئ أبداً تحت مظلة الأجواء، ولا يستطيع أن يستعين بعملية تجميلية كي يخفي معالمه عن الأنظار.. الخريف في لندن ينثر أوراقه اليابسة الصفراء بكل جرأة في الحدائق والشوارع وعلى النوافذ، وفي كل مكان.. جلست بجانب النافذة أطل على الجو الذي أظلمته غيمة سوداء في وسط النهار، وعلى الشارع البارد الذي كسته أوراق الخريف الصفراء المتناثرة بعد أن لفظتها الأشجار رغم أنها قد زينتها باللون الأخضر يوماً.. أمعنت النظر في تلك الأوراق الصفراء وانحدرت من عيني دمعة حزن عميقة، ولا أعرف لماذا أتت أمام عيني صور الراحلين، وكيف تساقطوا من الحياة، كما تساقطت أوراق الخريف، فقد رأيت في كل ورقة صفراء أمامي حكاية حزن بذاتها. كانت إحدى تلك الأوراق حكاية طفلتين صغيرتين عرفتا عمق الصداقة قبل أن تعيا معناها، كانتا تلعبان يوما في ساحة مدرسة كبيرة، تحتضن أكفهما الصغيرة بعضها في ألعاب الطفولة، وتتشاركان أناشيد وأغاني سنوات العمر الأولى، وتقفان أمام باب المدرسة معا، إنها صديقة الطفولة التي ذبلت ويبست وسقطت سريعا من شجرة الحياة، مخلفة ذكرى لا ترحل وحزناً عميقاً.. وكانت إحدى تلك الأوراق الصفراء ذكرى أبي الذي رحل في شتاء حزين وانطوت برحيله صفحة حب عظيمة، ولم يبق بعدها إلا الشوق، وما مرور الوقت إلا غبار كثيف قد يخفي الشوق خلفه، لكن نار الشوق دائماً تبقى تحت الرماد، وقد تحركها بقوة وتنفضها ورقة خريف صفراء قد تمر أمام ناظري.. وكانت إحدى الورقات الصفراء المتساقطة ذكرى أمي التي غابت عن الحياة في هدوء، مخلفة وراءها ضجيجاً من كلماتها، وعباءتها، وأماكن في البيت افتقدتها بشدة كما افتقدتها، وسنوات حب وعشق طويلة بدأت يوم مولدي.. ما بال أوراق الخريف الصفراء تحول عيني إلى غيمة سوداء مثقلة بالمطر أخذت تهمره بشدة.. ما بال أوراق الخريف الصفراء تفضح قوتي الزائفة أمام هجمات الشوق، والذكرى واحتمال فقد الراحلين، عندما أعتقد بأن النسيان خير دواء وأنه قد عالج ما بي من ألم، تأتي ورقة خريف لتفسد الدواء الذي اعتقدته ناجعا. رأيت في الأوراق الصفراء المتناثرة صور وجوه أخرى غالية كثيرة، لكل وجه حكاية، ولكل حكاية رحلة ألم وحزن وشوق تركته في قلوب محبيها.. أوراق تجرف بعضها البعض كآلامنا وأحزاننا التي لا تنتهي على الراحلين.. أغلقت النافذة ودخلت لأجد النور ينتشر في غرفة الجلوس وكأنه نبض الحياة والواقع الذي لابد نحياه، فمهمها أظلمت داخلنا غيمة الخريف، فلابد لنا وأن نعود للضياء.