14 سبتمبر 2025
تسجيلالأساس في الطاعة أنها تجعل الإنسان يتحقق بأوصاف عبوديته بين يدي الله ومع صنوف الخلق، والعبودية تنافي الصلف والغطرسة لأنها تواضع ولين، وقد تجد ناساً من الموسمين بالعبادة يتذرعون بما يؤدون من طاعات للاستعلاء على الخلق والغض من الآخرين، على حين تجد ناساً ليسو على غرارهم آلين عريكة وأسهل انقياداً. إن الله شرع العبادات ليتواضع العباد بها لا ليستكبروا وليستقبلوا بها رحمته ثم يلقون بها سائر الخلق وفي قلوبهم رقة، وفي نفوسهم وداعة وفي سيرتهم طيبة. وقد وصف الله عباده الصالحين فقال (والذين يؤثرن ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) إن البواعث التي تسوق المرء إلى العمل وتدفعه إلى إجادته وتغريه بتحمل التعب فيه أو بذل الكثير من أجله كثيرة متباينة. فهناك قوم لا تخلص معاملاتهم مع الله بل هي مشوبة بحظوظ النفس ورغبات العاجلة، وهناك قوم آخرون يعاملون الله وهم مشغولون بأجره وما الذي سيمنحهم إياه وتركوا قصد وجهه أو بمطالبهم منه عن الذي ينبغي أو يجب له عليهم وهذا الصنف من الناس مقيدون بسلاسل أنانيتهم فهم يسيرون حولها، ولو عرفوا حق الله حق المعرفة ما توقفت رغباتهم وغاياتهم عندها لأنه لو عرفوا الله حقاً لتخطوا كل شيء دونه حتى ينزلوا بساحة كرمه ويقوموا على بساط فضله ولا تطمئن نفوسهم إلا برضاه جل شأنه. الغرايز البشرية المعروفة هي قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن تميز بينها فما أكثر ما تكون مشاعر الإعجاب أو الكراهية أو التقليد للآخرين أو التكبر مصدر ما يدور بين الناس من حديث أو تصرفات. والإسلام يرقب ذلك كله بعناية فائقة فينظر إلى العمل وما يقارنه من نية أو ما يلابسه من عواطف وانفعالات. وهو لا يعتد بالعمل إلا إذا خلص من شوائب النفس وخلص لله وحده على ما جاء به وصف القرآن الكريم. قال الله تعالى (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا..) (والذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". أن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعلانه عملاً متقبلاً. أن خبث الطوية يهبط بالطاعات المحضة كالصلاة مثلاً- فيقلبها- معاصي شائنة فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسار " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" أن مصلياً تقول له صلاته " ضيعك الله كما ضيعتني" هم الذين قيل لهم " فويل للمصلين" هؤلاء كان في القديم والحديث حجة على الدين لا سناداً له وعوائق تصد عن طاعة الله وتغري بالمعصية له (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا). والحق أن الإنسان ما دام قد أسلم وجهه لله (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) وأخلص نيته فإن حركاته وسكناته وكل أحواله تحتسب له خطوات في مرضاة الله، وقد يعجز عن عمل الخير الذي يصير إليه لقلة ماله أوحيلته أو صحته، ولكن الله المطلع على سرائر النفوس وخباياها يرفع أمثال هؤلاء إلى مراتب العاملين الصادقين. هل سمعت خبر البكائين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم وذلك أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه في غزوة العسرة يريدون أن يقاتلوا معه وأن يجودوا بأنفسهم وهي أفضل وآخر ما يملكون غير أن الرسول لم يستطع تجنيدهم فعادوا وفي حلوقهم غصة (وأعينهم تفيض من الدمع) لتخلفهم عن ساحة البذل في سبيل الله ونيل شرف القتال مع الرسول القائد الرحيم بالمؤمنين فأنزل الله فيهم تخليداً لأمثال هذه النفوس فقال عز وجل (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون). أترى أن الله يهدر مثل هذا اليقين الراسخ، أن النية الصادقة سجلت لهم ثواب المجاهدين لأنهم قعدوا راغمين ومثلهم (ورجل قلبه معلق بالمساجد) فهو من أهل المساجد وأن لم يستطيع الوصول إليها لعذر. لذلك قال عليه الصلاة والسلام لمن شهد الساحة وقاتل وعرضه نفسه للهلاك: "إن أقواماً خلفنا في المدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر". إن من حق الإنسان الفاضل أن يدفع عن نفسه قالة السوء ومن حقه ألا يكسف نور الإيمان الذي بين جنباته وأن تؤخذ عنه الأسوة الحسنة (لتكونوا شهداء على الناس) ومن ثم فصلته بالناس يجب أن تظهر بالبر بينهم وأن يعلن أمامهم أنه عبدالله وأنه قرر أن يسير باسمه في كل درب يرضاه (قل هذه سبيلي). إن حرص المؤمن على إعلان ما يؤمن به فرض واجب مع صيانة سمعته من أي غبار، وقد استوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه رأوه مع إحدى زوجاته فناداهم وأفهمهم أنها فلانه زوجته حفصة حتى لا يظنوا به ظن السوء مع أنه صلوات الله عليه وسلامه فوق ألتهم. إن سرور المؤمن إذا عرف عنه من خير شيء طبيعي بعد أن أدى الخير بنية خالصة، وقد تحدث الصحابة عما يعالج نفوسهم من هذا النوع فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تلك عاجل بشرى المؤمن). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فارق الدنيا على الإخلاص فلا يضيره ما فقد ولا يحزنه ما قدم". ألا ما أحسن الإخلاص وأغزر بركته، إنه يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير لا يزن عند الله مثقال ذرة. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخلص دينك يكفك العمل القليل". ويظهر أن تفاوت الأجور التي رصدت للحسنات من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف يعود إلى سر الإخلاص الكامن في سويداء القلوب وهو ما لا يطلع عليه إلا عالم الغيب والشهادة، فعلى قدر نقاء السريرة وصفاء النية وسعة النفع تكتب الأضعاف المضاعفة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين