17 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); مذ سكن السماء، لم يغب عن سماء الشعر، ما زال يجول في مخيلة الشعراء، يشرق من قلب القصيدة، تيمة عشق أيام كان للحب مكان وللقلوب متسع.القمر هذا الجميل الملهم الرافل في الأعالي المتخطف لعيون الأزمنة، هذا النائي القريب، المتمنع، الساحر، الآسر، المتيِّم، السابي للعقول والقلوب ما زال على الأرض يصنع أشباهه أقمارًا من مجاز الكلام لها في الروح ذات الحضور البهي.كان القمر حبًا، حبيبًا، ذكرى لضوء هامس، قبلة ولهٍ، أغنيات صاعدة، أوجهًا حسانًا تأخذ الألباب، كان آية للحسن والجمال.في أيامنا السود النحسات يبدو وكأن القمر قد فقد تلك المكانة تبعًا لفقداننا الكثير.يسقط الإنسان فتسقط كل الأشياء الجميلة، يخبو الحب، ينطفئ الشغف، تبهت المعاني، يتراجع البريق الأصيل، يضمر الضوء فتشتد العتمة، يشحب القمر، يغدو سواه للقلوب الفارغة والعيون المنطفئة.في شعرنا المعاصر فقد القمر كثيرًا من امتيازاته القديمة، لم يعد ذلك المثال، نزل من برجه المتعالي كنموذج حب أرستقراطي مجنح.عصرنا اللاهث المسكون بالقهر والفقر سلبه الكثير من براءته استدعاه الشاعر العربي الحديث ضحية، قتيلًا آخر كما في شعر «صلاح عبدالصبور» و«أمل دنقل» وآخرين.فقد القمر رومانسيته القديمة واستحال إلى كادح متعرق، إلى شبح قاتم، إلى فرحٍ مذبوح، إلى رمزيات كثيرة يفرضها الواقع العربي الرث حيث تفرد الأمية الحاكمة بلادتها السياسية والثقافية والاجتماعية على كل شيء من البشر إلى القمر.مذ سكن الجوع القلب فر القمر، مذ انحشر المواطن العربي في أمعائه الغليظة كف عن رؤية القمر.«أأقول أني أقطع الأيام مربوطًا بأمعائي أذل وأمتهن؟» للمبدع الرائع «عبدالغني المقرمي» أرددها أبدًا كلما علا صوت السغب، الجوع انسحاق يقتل آدمية الإنسان وأشواقه ومع الندرة يتضاءل الجسد وتنكمش الروح، تشحب العاطفة، تفرغ الحياة.الفقر ابتذال وإهانة للحياة يطاول سوءها حتى القمر.حيث تتسيد الفاقة تأتي الأماني جائعة، تستحيل الأرض بلسانٍ قريب إلى مائدة شعبية مشتهاة.«.ليت السما زوم..وصنعا عصيدة، وقاع جهران ملوجة واحدة» كما يصبح القمر خبزًا في عيني «درويش»: عندما تفرغ أكياس الطحين يصبح البدر رغيفًا في عيوني»الفقر يلوث دواخلنا ومرائينا في الأرض والسماء، يجعل الرؤية فقيرة، يصيب خيالنا بالكساح، يسلب المعنى قيمته ويجرده من المكانة والصفة، يخلع على الحياة دمامته.بماذا يذكرك القمر؟ هل تذكر آخر مرة حدقت إليه سيما إن كنت من سكان مدائن الإسمنت وعلب الكبريت حيث الجهامة والفقر والزحام الأعمى والليالي الكالحة كحالك حيث لا ترى غير مخاوفك المدلهمة؟ آخر مرة رأيته بصنعاء، وكان قمرا آخر نصا متشحا بحزن كثير، كان نثرية ل«طه الجند» هي آخر تحديقاته المختنقة بالهم الفقير و«طه» شاعر يمني أثيرٌ يشبه شعره في براءته وتوحشه وبساطته المفخخة بالحزن، له وجه القرية ترى فيه كبرياء التعب وملامح رفاق كدٍ شاخوا قبل الأوان في أرض ازدرعوا فيها أعمارهم وما حصدوا غير الأسى والندم.هذا «طه الجند» يخمش السماء بأحزانه، يعيد تأمل القمر بعينين مسمولتين مسكونتين بالقاع.يحدق فيه بأعين جميع أسارى الاختناق سكان العراء المستأجر وسمار المذلات التي لا تنام في بلد تقلص فيها الدرب وضاق القلب «القمر» نصٌ ل«الجند» يغري بالبكاء «في سماء فسيحة يمارس غواياته يتسلق ويقفز يحضر ويغيب دون هم الإيجار لا أصدقاء ولا أبناء يمرضون طفل الليل لم يجع يومًا ولم يتهكم الساسة عليه أنا في حيزٍ لا يكفي نملة أفكر وأزحف أقامر وأدور أحزن وأفرح أشيخ وأموت»يؤرخ «الجند» للانحشار المتواصل في الهامش حيث «الحيز لا يكفي نملة» وحيث يُطلب ترتيب الحياة وتقليص الأشواق والطموحات وترسيم الوجود كله.وفق أضيق الشروط وأشدها قهرا هذا استدعاء يجاوز الغبطة إلى الحسد، حسد السجين المعدم المثقل بأعباء واقع قهره.هي مرثية للفقدان المتعاظم في حياتنا الآخذة في الانكماش والتضاؤل ورؤية مجاوزة فريدة للقمر يجعله فيها الجند«موضوعًا للإسقاط السياسي والاجتماعي على نحو يغاير تمامًا الرؤية القديمة بمختلف تجلياتها حيث كان القمر مشبهًا به قيمة جمالية يتوسل إسقاطها إلى الأرض في صورة محبوبٍ آسر متأبي فائق الحسن.القمر هنا معادل موضوعي للإنسان الذي سقط في العتمة، القمر هنا هو الإنسان الذي تنازل عن مكانه ومكانته، هوى نحو الحضيض، تخلى عن فضائه وضيائه وحريته وكرامته لقاء عيشٍ تأنف منه السوائم.يذكرني هذا النص المحرض بتلويحة الشابي الحادة في آخر سينيته الشهيرة التي أعلن فيها يأسه من شعبه وخروجه نحو الغاب بحثًا عن أفقٍ آخر يستحق وكائنات أخرى أكثر جدارة: سوف أتلو على الطيور أناشيدي وأفضي لها بأشواق نفسي فهي تدري معنى الحياة وتدري أن مجد النفوس يقظة حس قل لي كيف تعيش بمعاشٍ زهيد لا يؤمنك مخاوف يوم؟ كيف ترتب سقوطك نحو الهاوية؟ تدفع للمؤجر ما هو أكثر من راتبك وتعيش الشهر بما تؤجر من روحك ووجهك بما تبقى من حسن التقدير مثقلًا بك وبأهلك ونسلك وبعفشك، تعيش لتصبر، تعمل لتأكلك الهموم، لهذا يستفزك القمر لأنك تستحق الأعالي سكنًا ووطنًا فسيحًا دائم التوهج..يأبى السقوط المدمر.ترى أين هو طه الجند الآن؟ هل نزح بعيدا عن الوطن والقصيدة في رحلة الشتات الأخيرة بعد أن صادر الهمج كل شيء حتى حيّز النملة..؟ وأين تراه» طفل الليل" الآن؟ في أي الجبهات يقاتل منتصرا للعتمة وممارسا غوايات مدمرة أكثر جدة لا تبعث على الحسد.