10 سبتمبر 2025
تسجيلبدأنا المقال السابق عن أهم المقومات الأخلاقية لحضارتنا وذكرنا منها أنها أخلاق ترتقي بالإنسان وليست كالأخلاق التي يدعو لها الغرب أحيانا وهي في حقيقتها تنزل من مستوى الإنسان إلى شهوات الحيوان أو ظلمة الأنانية أو مستوى ينفر منه الطبع الفطري السليم، ثم عرجنا على المقوم الثاني وهو الحرية المحاطة بالفضيلة والراعية لها، وها نحن نكمل قليلا عن الحرية قبل أن ننتقل للمقوم الثالث. الحرية المنضبطة بالأخلاق في حضارة الإسلام لا يوجد هناك حظر على التدين والتعبير، وإنما الحظر على الفساد السلوكي، والانحلال الأخلاقي، والانحراف عن الفضيلة. عندما ندعو إلى الحرية، ونقول: إن الإسلام كفل الحريات للناس، فإننا ندعو في الوقت ذاته إلى ضبط الحريات بالأخلاق، لأن الأخلاق غالباً ما ترتبط بالشهوة وليس بالفكر، وخلاصة الأمر أن من حق الإنسان أن يفكر كما يشاء، ومن حقه أن يتبنى ما يشاء من الأفكار، لكن عند التطبيق وفي السلوك لا بد أن ينضبط بالأخلاق، ويلتزم بالقانون، وبغير ذلك تصبح الحرية وبالاً على الناس، وأضرارها أكبر من منافعها. حرية التعبير لقد كفل الإسلام للناس حرية التعبير، فمن حق أي شخص أن يقول ما يشاء ما لم يؤدِّ ذلك إلى فساد أو إحداث ضرر، فمن حق الإنسان أن يدعو إلى أفكاره ويروّج لآرائه، كما يحقّ للناس أن يعترضوا على الحاكم والحكومة والوزراء إذا رأوا ظلماً أو خللاً، ومما يدعم قولي أن القرآن الكريم حفظ لنا أقوال الكفار واعتراضهم على الله تعالى، ونقدهم لنبيه (، وهي في غالبيتها أقوال كفرية، وفيها إساءة الأدب مع الله تعالى، ومع نبيّه محمد). وحرية التعبير كما أتخيلها في حضارتنا القادمة، تشمل الصحافة، وحرية الإعلام، وحرية التفكير، وحرية الدعوة إلى الأفكار والآراء. الحضارة التي أتطلع إليها ليست هذه الحضارة التي أحلم بها، ولا التي أتمناها لأبنائي وأحفادي، بل أتخيل الحضارة الإسلامية حضارة منفتحة، تكفل للناس حرية للتعبير، لا يلتفت فيها الرجل يمنة ويسرة قبل أن يتفوه بكلمة، ولا يخشى فيها المفكّر من السجن إذا أبدى رأيه أو انتقد الواقع. حضارة فيها العلماء يتحاورون، والمفكرون يتناقشون، والحجة تدحض بالحجة، والفكرة تُدفع بمثلها، فلا حجر على رأي أحد، ولا إقصاء للمخالف، هكذا أتخيل الحضارة الإسلامية التي أتمنى أن أدركها، وأعيش في رحابها، لأني أؤمن أن الحراك الثقافي والانفتاح الفكري سبب من أسباب النهضة الحضارية. ثالثاً- الفن الملتزم بالقيم والأخلاق قد يأخذ الفن أشكالاً وصوراً متعددة، منها المادي كالرسم والنحت والزخرفة والعمارة، ومنها المعنوي كالغناء والإنشاد، والكتابة والخطابة والشعر والتمثيل وغيرها، والفن تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، فحلاله حلال وحرامه حرام. وفي تاريخنا الإسلامي وقائع تشير إلى أن الفنّ كان موجوداً في الحضارة الإسلامية، ومن ذلك ما حدث أن لبيداً الشاعر الجاهلي أنشد أمام الناس فقال (أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ، فَقَالَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ: صَدَقْتَ. ثم إن لَبِيدَ أَنْشَدَهُمْ تَمَامَ الْبَيْتِ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ، فَقَالَ: كَذَبْتَ....إِنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا يَزُولُ) رواه الطبراني في المعجم الكبير. الفن ألوان وصور الشعر لون من ألوان الفن، بل إن النبي (قد احتفى بالشعر وبالشعراء، وشجع على توظيفه في خدمة الدين، ونصرة الحق، فقد روى الإمام البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان ينصب المنبر لحسان ويقول: (اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) ورفع صوته في الناس قائلاً: ((اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ)) فالشعر هنا فن استعمل في الحرب الإعلامية. لذا فمن حقّ الناس أن يعبروا عن مشاعرهم بأشعارهم، لكن عليهم أن يتقيدوا بالأخلاق، أما الذين لا يحترمون الفن، ويفتون الناس بأنه مخالف للدين، وأن الإسلام يحاربه، فهؤلاء ندعوهم إلى مراجعة أفكارهم، لأن الفن في النهاية ما هو إلا تعبير عن مشاعر وأحاسيس الإنسان، وتفريغ لمكنونات صدره ليس أكثر. الترويح عن النفس من أهداف الفن جاء في بعض الآثار: ((روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب تكل، فإذا كلّت ملّت، وإذا ملّت عميَت)) والترويح كلمة يقابلها الترفيه، وإني أسأل الذين يحرمون الفن بماذا يتم الترويح عن النفس، أليس بصورة من صورة الفن؟ مثل الحداء والنشيد، فالترويح الحلال عن النفس أحد الأهداف النبيلة للفن. بل إن النبي (وجّه أصحابه إلى أهمية الترويح عن النفس بالحلال، فتروي كتب السنة أن حنظلة الكاتب (دخل على النبي فقال ((نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَة وَسَاعَة ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)) مسلم الإسلام دين الفن الإسلام دين الفن والجمال والذوق، لكنه الفن الملتزم بالأخلاق، الفن الذي لا يخالف الشرع، ولو حكمنا بتحريم الفن لكونه لهواً، لكان أغلب ما في الدنيا محرماً. الحضارة الإسلامية تشجع الفن الملتزم الذي ينهض بالإنسان ويرتقي بقيمه، بينما تحارب وتمنع الفن الذي يهبط بالإنسان إلى منزلة البهائم، ولا أتصور حضارة بلا فن وجمال، لذا لست مع من يفتي بأن الفن رجس من عمل الشيطان، وعلى المسلم أن يجتنبه، بل أقول لا بأس بالفن، بل وأشجعه طالما أنه فن ملتزم بالقيم والأخلاق الإسلامية. علاوة على ذلك نقول: إن الفن رسالة وليس تجارة، ولسنا مع دعاة " ما يطلبه الجمهور "، ولا ينبغي أن ننحط بالفن بحجة أن الجماهير تريد ذلك، لأن الغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، والغاية الشريفة لا بدّ أن تكون وسيلتها شريفة.