19 سبتمبر 2025
تسجيلكنت أعجب في زيارتي لمصر في مطلع شبابي وأنا أرى لوحات شهادات الأطباء والمهندسين وغيرهم تسُد البالكونات والنوافذ، وهي تحمل أدق التفاصيل عن هذه الشهادات والمميزات التابعة لها سابقا ولاحقا وهي تطل على الشارع. وأتساءل ما ذنب المواطن وما يخص الفرد فى الشارع أن يعرف أن صاحب هذا البيت أو الشقة يملك شهادة بمثل هذا الحجم، وقد شوهت منظر السكن ناهيك عن الشارع، وازددت عجبا فى زياراتي لأوروبا بعد ذلك لما وجدت أن أعظم المؤسسات وأكبر الأطباء يكتفون بمجرد علامة صغيرة على مكاتبهم تشير إلى مهنهم، وشهاداتهم عبارة عن مختصرات لا تتعدى الأحرف الثلاثة، فأدركت بعد ذلك أن للمسألة بُعداً اجتماعياً يتعلق بوضع الفرد فى المجتمع وبحراكه الاجتماعى من عدمه. اختفاء التمايزات الطبقية بأشكالها تجعل من الوسط المعرفي وسطاً صحياً ويقلل من حدة اختلاطه وتشوه أهدافه، وتفرز إلى حد ما طبيعة المنتسبين إليه. فالبروفيسور يتصرف بطريقة لا تميزه عن الفرد العادي فى حين أن أستاذ الجامعة لدينا يريد أن يعرف العالم بأكمله أنه دكتور يمتلك الشهادة، حتى وإن كان الوضع لا يحتمل ذلك وليس فى مكانه. لذلك ترى فوضى معرفية، فعندما يضطر الفرد لاستعمال شهادته فى كل حين وفي غير محلها ومكانها إثباتا لذاته، فعليك أن تدرك أنك تعيش فى مجتمع طبقي من الدرجه الأولى. نقرأ مقالات عادية غير متخصصة يذيل أصحابها أسماؤهم بلقب دكتور أو أستاذ دكتور.. ما مناسبة الشهادة هنا؟ ما أهميه أن يدرك المشاهد مثلا أن من يقرأ نشرة الأخبار حاصل على الدكتوراه، وهل يستلزم الأمر ذلك؟ ليس القصد هنا الإشاره لأحد بذاته (لا والله)، ولكن الأمر كونه ملاحظة لمشكلة أعمق وأشد، وهي ثبات المجتمع وإقصاؤه، وتأثير ذلك على الوسط المعرفي، حيث يتجه لمواجهة هذا الوضع وليس لهدف أسمى هو المعرفة في حد ذاتها. خسر العلم يوم أصبحت الشهادات العلمية وسيلة لتحسين الوضع الاجتماعي أكثر منها مطلبا ذاتيا.. خسر المجتمع عندما جعل من اللقب هدفاً في حد ذاته فمن لم يُتَحْ له اللقب فطرياً، فليبحث عنه أين وجد.. خسر المواطن عندما أدرك أن وجود اللقب العلمي أهم من ذاته فاختبأ ذاتيا وراءه واستعمله حتى عند دخوله المطعم ليأكل. عجبت لشهادة يأخذها المرء فى سنوات عدهة، يستمر مفعولها إلى آخر العمر وربما بعده لتصبح هى الأصل وصاحبها هو ظلُّها المنعكس. احفروا داخل العقلية المجتمعية، ولاتكتفوا بالنظم والمناهج لإصلاح الوضع لأن الشهادات ستؤخذ، ولكن بأية نية، ومن أجل ماذا؟ هذا هو السؤال، ولا أعني هنا شمولية ولكن الجانب السلبي في الموضوع قد أصبح ظاهره يمكن ملاحظتها. [email protected]