01 نوفمبر 2025
تسجيلكان المشهد مضحكا، رغم سخونة وتوتر جو الاحتشاد والفوران النفسي الذي سيطر على التظاهرة. أحد المتظاهرين الذي كان يحمل على أكتافه من يقود الهتاف والحماس، يجري بسرعة واندفاع بمن على أكتافه ليدخل بين صفوف قوات الأمن ليسلم المسكين الذي وثق فيه، حدثت لحظة صمت مطبق استمرت لثوان كأنها دهر صاحبتها ابتسامة ذهول، انفرط بعدها عقد المتظاهرين. وصارت واقعة يتندر به أبناء هذا الجيل، إذ ذاك الذي قام بعملية تسليم قائد التظاهرة، كان الأشد حماسا والأشد رغبة في خروج المظاهرة من داخل أسوار الجامعة لمواجهة قوات الأمن خارجها، كما كان صبورا وحمولا إلى أقصى حد، إذ أصر على حمل من يتولى الهتاف طوال فترة دوران التظاهرة داخل أسوار الجامعة. لم يفرط في مهمة حمل قائد التظاهرة أبداً – رغم الجهد والتعب- حتى قام بتسليمه.تلك حالة نموذجية للثوري المزيف، الذي تمكن من كسب ثقة المتظاهرين وقائد الهتاف، وهو يضمر أمرا آخر، ويوالي ذات الجهة التي خرجت التظاهرة ضدها. لكنها ليست إلا الشكل الأبسط في مثل تلك الألاعيب الخداعية، إذ حالات فتك الثوار المزيفين بالثورات صارت حالات متقنة في آلياتها وشخوصها ودورها وطريقة صناعتهم، لكي لا يكون دورهم محدودا أو مقتصرا على مجرد فض مظاهرة أو تسليم مطلوب لأجهزة الأمن، بل تقسيم وتفتيت مواقف الجمهور العام والقوى السياسية وإثارة الاضطراب العام وتشويه صورة الثورة في أعين الجمهور العام. لقد تخطى دورهم تلك الحكايات البسيطة وصاروا في موضع القدرة على تحويل العلاقات بين القوى السياسية وفي داخل المجتمع من الوحدة على موقف واحد إلى التفتت والضغينة والاشتباك والاقتتال. بعضهم يتلخص دوره في رفع أقصى الشعارات ثورية أو فوضوية وارتكاب أفعال تشوه الثورة وتدفع المواطنين إلى كره الثورة واليوم الذي اندلعت فيه، لتعود بالحنين إلى الأيام والزمن والحكم السابق. وبعضهم يتولى مهمة حشد قدر من الشباب لتشكيل مجموعات وقيادتها لتؤدي مهمة منع القوى السياسية من الوصول إلى توافقات وإظهارها بمظهر المنقسمة. وهناك من يتولى مهمة القيام بدور مخرات السيول التي تشق مسبقا وتتولى توجيه مياه السيول الجارفة من حشود الجماهير..إلخ. وكل هؤلاء أدوات تهيئة الأوضاع لنجاح الثورة المضادة.وقد شهدت كل ثورات الربيع العربي، نماذج بالغة الوضوح من تلك الألاعيب والخدع، فبعضها شهد تشكيل وقيام جماعات وتيارات تحمل السلاح لتدفع الثورة نحو العسكرة التي تفشلها وتحولها إلى أداة تدمير، وبعض مثل تلك الجماعات تقوم بأعمال قتل مبرمجة ضد أفراد المجتمع تحت أقصى الدعاوى الثورية، بما يغير صورة الثوار وينقلهم من مدافعين عن حقوق الناس إلى قتلة مثلهم مثل النظم، وبعضها الآخر يقوم بأعمال قتل ضد الجيوش وأجهزة الأمن بغرض تصعيد عدوانيتها ضد الشعوب والمظاهرة السلمية، وتصليب وتقوية مواقف أفراد تلك الأجهزة في مواجهة الثورات، إذ يصبح كل فرد فيها في موقع الدفاع عن حياته لا عن النظام.والأمر هنا لا يستنتج من خلال قراءة شواهد الانقسام والتفتيت بين الثوار وبعضهم البعض وبين الثوار والمجتمع، بل من خلال تنقل تنظيمات وأفراد وقيادات من أقصى المواقف إلى أقصاها، ومن خلال تمتع مثل تلك المجموعات –على تنوعها- بدعم إعلامي ظاهر أو مستتر، بعض هؤلاء يجري التركيز الإعلامي عليهم لإكسابهم مشروعية جماهيرية في كل تحركاتهم وأفعالهم عبر التركيز على وصفهم أو دمغهم بالثورية (يظهرونهم ثوريين متحمسين دوما مثل ذاك الذي سلم قائد التظاهرة) لكي يذهب في الوقت المناسب بتك المشروعية المزيفة ليسلمها إلى خصوم وأعداء الثورة. وبعضهم يحتل الشاشات إذ يجري التركيز على أفعالهم الإجرامية مع لزقها بتيارات الثورة الحقيقية..إلخ.تلك الحالات شهدناها ونشهدها على نطاق واسع خلال ثورات الربيع، وهي حالات متبدلة في شعاراتها ومواقفها لكنها قادرة على البقاء –بحكم ما تحظى به من مساندة مستترة وبسبب شيطنة الإعلام للثوار الحقيقيين - والاستمرار في أداء أدوار تؤدي إلى ذات النتيجة. والآن إذ بدأت ثورات الربيع في استعادة بعض من عافيتها وثقة الجمهور العام بها مجددا، فاللافت أن هؤلاء الثوريين المزيفين باتوا يعودون في كثير من بلدان الثورات إلى لعب أدوارهم مجددا، وقد كانوا قد اختفوا من ساحات الفعل الثوري خلال الفترة التي شهدت صعودا للثورات المضادة. وهنا لا بديل عن مواجهة وفضح أدوار تلك العناصر والمجموعات أمام الرأي العام من خلال التذكير بالماضي القريب لهم وإذا كانت عدم المعرفة والخبرة في مطلع وبداية الثورات هي التي أدت إلى هذا الخطأ المريع، في بداية الثورات، فالآن لا عذر لأحد، إذ يكفي لتحديد الموقف الصحيح كتابة الاسم أو التنظيم أو الحركة في موقع البحث وبذل قليل من الوقت لمجرد قراءة عناوين التصريحات والبيانات السابقة.