10 سبتمبر 2025
تسجيلسيسطر تاريخ الربيع العربي السابع عشر من ديسمبر 2010 بأحرفٍ من ذهب، فالحادثة التي شهدها هذا اليوم لم تكن لتنال أكثر من عنوان عابر يتصدر صفحات وسائل الإعلام، والتي غدت فيما بعد الشرارة التي أشعلت الثورات العربية. وقد أصبح محمد البوعزيزي، أسطورة في العالم العربي.لم تتوقف الثورة داخل الحدود التونسية، بل اجتاح الناس الشوارع في الدول العربية المجاورة مستمدين الشجاعة من النجاح الذي حققته الثورة. فسرعان ما أطاحت مصر بنظام حسني مبارك، الذي لحق به الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي وافق في نهاية الأمر على مقترح مجلس التعاون الخليجي للتنحي عن الحكم ونقل السلطة. وهناك ليبيا التي غيرتها الثورة أيضاً حيث جاء مقتل الزعيم معمر القذافي الذي حكم البلاد مدة طويلة على يد شعبه.وواصلت الثورات اجتياح المنطقة بكثافة ووتيرة متفاوتتين. فها هي سوريا تقاسي مخاض الثورة حيث تشهد اشتباكات وصدامات عنيفة بين المعارضين للحكومة والقوات الموالية للرئيس بشار الأسد. إن القلاقل والاضطرابات السياسية ليست من الأمور الجديدة على المنطقة التي عانت حروباً وصراعات كثيرة بين مختلف الجماعات المقسمة على أساس عرقي وقبلي وطائفي وحزبي.بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية (البطالة ومستويات الفقر والتضخم والفساد والشفافية)، فإنه لا يمكن نكران عامل آخر أسهم في اندلاع الثورات ألا وهو انعدام حرية التعبير. فحرية التعبير عن رأي المرء دون أية قيود ودون خوف هو حق أساس لكل إنسان. وهذه الحرية قائمة على مستويات مختلفة هي الحرية الشخصية وحرية الإعلام وحريات المؤسسات. وهذه الحريات الثلاثة متداخلة حيث إنه من المستحيل تحقيق الحرية الشخصية دون توفر درجة مقبولة من حرية الإعلام وحرية المؤسسات.ولا يمكن للمرء الحديث عن الثورة دون أن يذكر الدور الحيوي الذي لعبته وسائل الإعلام في هذه الثورات، فقد تكون موجة الاحتجاجات والثورات التي هزت الشرق الأوسط هي الأكثر تغطيةً في تاريخ الإعلام، حيث أصبحت القنوات التلفزيونية مثل قناة الجزيرة وقناة العربية حافزاً وأدوات لإعلام المشاهدين المحليين والدوليين بما يدور على الأرض من أحداث، في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الغربية لا تزال تتدافع لمعرفة أين كان يدور الحدث.وكانت قناة الجزيرة هي السباقة في تغطية بدايات الثورة في تونس عندما نشرت خبراً عن الاحتجاجات التي تلتها تضحية محمد البوعزيزي بنفسه. كما أن تغطية الشبكة للمظاهرات والصدامات التي وقعت في ميدان التحرير في القاهرة لمدة 18 يوماً متواصلاً عزز من مكانة القناة، إلا أنه تم انتقاد الجزيرة أيضاً لمدها دعماً ضمنياً للجماعات والأحزاب الإسلامية بالسماح لزعماء إسلاميين بالظهور في برامج إخبارية أو إجراء الإعلاميين مقابلات معهم. فقد كان رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي ضيفاً دائماً للجزيرة، إضافة إلى برامج أحمد منصور المستمرة والداعمة للإسلاميين. حتى اشتكى البعض من تغطية الجزيرة لمجموعات منتقاة فقط. ولكن الرأي العام استمر بالانقسام حول تغطية الثورات العربية سواءً من قبل الجزيرة أو من قبل شبكات أخرى، فهناك انقسام بين الداعمين للثورات التي يعتبرونها وسائل للناس لاستعادة ما فقدوه من صوت تحت استبداد وطغيان الطغاة وأولئك الذين يرون في الثورات تهديداً للوضع الراهن ومقدمة للفوضى في المنطقة.كانت بعض وسائل الإعلام تقوم بدعم كل معارض للنظام الاستبدادي وتنشر مواضيع أو تبث برامج متواصلة حتى أننا استمعنا إلى فتاوى خاصة فقط للربيع العربي. ولكن ما يحدث اليوم يجعلنا نراجع أنفسنا في ما يخص مصداقية هذه الوسائل الإعلامية.وبما أن ثورات الربيع العربي استطاعت كسر حاجز الخوف لدى الشعوب العربية بذهاب الحكومات المستبدة ومرحلة الاستبداد الذي ولىٌ إلى غير رجعة، فقد رأينا في الثورات العربية الجميع يقف صفاً واحداً ضد الاستبداد، الإسلاميون والليبراليون واليساريون ورجال ونساء وأطفال القبائل المختلفة من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ولكن مازلنا نشهد من بعض وسائل الإعلام العربي وبسبب أجنداتها الخاصة أو أجندات العاملين بها، خلق أنظمة استبدادية جديدة على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة.وبعد مرور عامين على ثورات الربيع العربي وسيطرة الإسلاميين على حكومات بعض دول الربيع العربي، فإننا نرى التحول الكبير في وسائل الإعلام العربي، بدلاً من أن نخلق إعلاماً حراً وديمقراطياً يعتمد على الديمقراطية والشفافية في طرح المواضيع والقيم الأخلاقية والمسؤولية اتجاه الشعوب العربية. فنحن الآن نرى أن بعض وسائل الإعلام تتحيز إلى أفكار وأيدلوجيات وأجندات خاصة حتى أصبح ما كان مسموح أثناء ثورات الربيع محرماً الآن.ما يحدث في مصر الآن لهو دليل قاطع على تحيز بعض وسائل الإعلام لبعض الأطراف على حساب أطراف أخرى، حيث نرى قناة الجزيرة تميل إلى حكومة الإخوان بينما تنحاز قناة العربية للمعارضين في ميدان التحرير، وذلك بدلاً من أن تقوم القناتان بنشر ثقافة وفكر سياسي رصين. حتى أصبح كل من المعارضين في ميدان التحرير أو الداعمين بالقرب من جامعة القاهرة كفاراً وبلطجية وفلولاً، بدلاً من الدعوة إلى التقارب والتكامل بين أفراد المجتمع، مما أدى إلى بث الفتنة وانشقاق النسيج الاجتماعي في مصر بين مؤيد ورافض، حتى بتنا لا نستغرب إذا تم تكفير من لا يقوم بالتصويت على مشروع الدستور.إن حرية الإعلام تقوم على الالتزام بالمبادئ العالمية لحرية التعبير وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتطوير ثقافة المواطنة بين كل أفراد المجتمع، دون تمييز بينهم أو استخفاف ببعضهم، فهذه المبادئ من شأنها تعزيز القيم الإعلامية الفاضلة ونبذ الكراهية والبغضاء والبعد عن الانحياز. وتأتي أهمية الإعلام بشكل خاص حيث إنها أحد أهم المبادئ في قانون حقوق الإنسان الدولي، حتى تسمح للناس بالوصول إلى المعلومات بشكل موضوعي، حيث إنه من المفترض أنها تعمل على التوازن وتجهض أي ممارسات للفساد.إن حرية الرأي وحرية التعبير لا تعني إغفال الإعلاميين عن المسؤولية الأخلاقية وممارسة العمل الإعلامي بطريقة صحيحة، ولكن هناك قواعد عامة وثوابت لابد من التقيد بها، ومنها الموضوعية، الصدق، الدقة، المسؤولية، النزاهة، الاستقلالية، والكرامة، والعدالة والمهنية. نحتاج إلى إعلام للمرحلة القادمة برؤية صادقة صحيحة، بحيث تهدف إلى تحقيق الخير والنفع لجميع أفراد المجتمع، قال الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين) التوبة:119. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات:6.