18 سبتمبر 2025
تسجيليسعى الإنسان بطبيعته إلى تحقيق النجاح والتميز ونيل التقدير، وإبراز نفسه في المجتمع والسعي للتفوق على أقرانه، إلا أن طريق النجاح ليس مفروشا بالورود دائماً، وكما قال المتنبي "لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ، الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ". تمثل تلك الطبيعة المتأصلة في النفس البشرية دافعا للسعي للنجاح وتطوير القدرات وتغيير السلوكيات السلبية، إلا أن تلك الدوافع قد تصطدم أحيانا بجانب متأصل هو الآخر في النفس البشرية، يتمثل في الركون الى الكسل والبحث عن أسرع السبل وأبسطها للوصول الى الأهداف وتحقيق الغايات والتقاعس عن إحداث التغيير، والذي تعافه النفس أحيانا وتأنس للركون إلى ما هي عليه. تلك الصراعات التي تعيشها النفس البشرية أفرزت واقعاً ثنائياً ذا وجهين، يتمثل الأول في سعي "البعض" لتحقيق النجاح عبر مختلف الوسائل وباتباع كافة السبل، وتسويق وفرض أنفسهم عبر استغلال او اختلاق مجالات غير خاضعة لمعايير منضبطة، ولا تتمتع بالاعتراف على عكس ما تدعي، وإيهام المجتمع أنهم من الفطاحلة والراسخين في تلك المجالات، مع اجترار الألقاب الرنانة والتأكيد سواء بمناسبة أو من غير مناسبة بحصولهم على الاعتماد والاعتراف من قبل جهات يوحي اسمها بالرصانة والرزانة والموثوقية، وإلصاق انفسهم بدول متقدمة ظنا منهم ان كل ما ينسب لها سيكون متقدما ومحل ثقة هو الآخر، ناسين او متناسين ان تلك الدول قد تكون مليئة بالكيانات والمنظمات غير المعترف بها أساساً. ففي الآونة الاخيرة، انتشرت ظاهرة التدريب والمدربين والدورات التدريبية انتشاراً كبيرا، والتي تداعب وتدغدغ الجانب الشخصي، وتروج لوهم تطوير الذات، وتعد بالنجاح والتفوق، فتجد أحد رواد تلك المجالات وقد ذيّل اسمه بمدرب معتمد، أو أطلق على نفسه (مؤثر اجتماعي)، أو (إعلامي)، أو (مدرب إعلامي)، أو (كوتش) أو (مبرمج عصبي)، أو (خبير تنمية بشرية)! أو غيرها من الأسماء والصفات التي ليس لها نهاية، الأمر الذي يدعو للتساؤل حول طبيعة تلك الجهات مانحة الاعتماد؟ وعن ماهية التأثير المقصود الذي يحدثه ذلك المؤثر! وما التعريف أو التوصيف الدقيق لكلمة إعلامي؟ أو مدرب إعلامي؟ وما الدور المنوط به؟ ومن هو المبرمج وماذا يبرمج؟. أما الوجه الاخر فيتمثل في استغلال تلك الفئة لشريحة أكبر من المجتمع، عبر توظيف ذات الدوافع الباعثة على السعي للنجاح والتفوق وإحداث التغيير، وإيهام أفراد تلك الشريحة عبر العناوين الرنانة والمقولات المسجوعة أنهم قادرون على الأخذ بأيديهم إلى النجاح، و"إطلاق المارد الذي بداخلهم"، وانتشالهم من نار السلبية الى جنات الإيجابية المزعومة وإزالة الغمة عن عيون الأمة، والتحكم في العقل الباطن ذي القوة الجبارة المتينة، ولبلوغ ذلك، كل ما عليهم فعله هو الاستماع لهم، وحضور دوراتهم ومشاهدة حلقاتهم ومتابعة حساباتهم. في الواقع فإنه لا يمكن، تحت أي مسوغ، النفي أو التشكيك أو التقليل من شأن التدريب والدورات التدريبية، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار اهمية علم النفس السلوكي في إدراك الانسان لنفسه ولنوازعه ونواقصه، أو إغفال مسالك التطوير والتغيير للأفضل، إلا أن ما نحن بصدد الحديث عنه هنا يتعلق بالعلوم الزائفة والمجالات المستحدثة غير المبنية على أسس علمية ومنهجية ودراسات مستفيضة وكافية، ليس الأمر كذلك فحسب، بل إن المشكلة تكمن في الإيهام بأن تلك الطرق تعد علوما معتبرة ومتفقا عليها. لقد أصبحت تلك المجالات بكل أسف مهنة من لا مهنة له، كما أن تلك الوسائل تشكل بالنسبة للبعض طريقا مختصراً ومجدياً لتحقيق النجاح وموردا جيدا للأموال، وبما أننا نعيش حياتنا وفق مبادئ السوق والعرض والطلب أصبح كل شيء معروضا للبيع، وكل شيء قابلا للشراء، فالأهداف المبطنة غير المعلنة تحوم حول المال والشهرة، فيما يشبه التجارة المستترة، وما يُتحصل عليه لقاء تلك الأنشطة يفوق بمراحل ما يتم تقديمه من معارف وعلوم ومهارات، وأكبر دليل على ذلك تأسيس الملتقيات التي تضم تحت مظلتها تلك الفئات من مروجي الأوهام، وعقد الاجتماعات عديمة الجدوى لمناقشة ما تم التوصل اليه بخصوص ما تمت مناقشته في الاجتماع الذي ناقش عقد الاجتماع المنعقد! واتخاذ الخطوات الكفيلة بعقد الاجتماع المقبل!، ونضيع في حلقة مفرغة من البهرجة الإعلامية وما يستتبع ذلك من استنزاف للموارد المخصصة لرعاية الأنشطة المجتمعية والمؤسسات الشبابية باستحواذ تلك الفئات على النصيب الأكبر منها والتسابق للانقضاض عليها. وفيما يمضي الطبيب ردحاً من عمره بين الكتب والتحصيل العلمي ليصبح طبيبا مرموقاً، ويسهر المهندس الليالي الطوال في الدراسة ليصبح مهندساً معروفاً، يختصر المدرب الموهوم والإعلامي المرموق والمؤثر المشهور ذلك الطريق، ويقفز السلم نحو المجد الزائف دون عناء، بل ربما يفوق من سبق ذكرهم صيتا وشهرة ودخلا، وما دام الامر كذلك، لماذا يتكبد عناء تحقيق المعايير المطلوبة ليتبوأ مكانة مرموقة في أحد المجالات المعتمدة؟ فيكتفي ببعض البهرجة الإعلامية "وشراء" مؤهل أكاديمي كما يفعل البعض ثم الانطلاق نحو المجد. ان التناقض الناجم عن استغلال حاجة الناس وسعيهم للنجاح، وإحداث التغيير على المستوى الشخصي أمر مثير للسخرية، كمن يبيع الوهم لمن هم في أمس الحاجة للمساعدة، عبر الايهام بامتلاك الحلول وتقديم الاستشارات التي وإن اتبعتها ستصبح ناجحا، وستنسلخ من شخصيتك الضعيفة والهشة الى شخصية قوية نافذة، وستضاعف حظوظك وستوقظ المارد النائم والقابع بداخلك، وستمكنك تلك الآليات من الغوص في أعماق نفسك واستخلاص أفضل ما تملك. والمشكلة التي يعانيها المجتمع والتي تعمق من تلك الاشكالية هي دعمه دون وعي لصناعة الرمز، والبحث الدائم عن النموذج، والإعلاء من شأن بائعي الأوهام، وهو أمر لا يقتصر على أفراد ذلك المجتمع وحسب، بل قد يشمل جهات معتبرة وقطاعات حيوية، عبر تدعيم مكانة المتسلقين الفارضين أنفسهم على الواقع فرضاً، واسباغ الالقاب عليهم واشهارهم، واستضافتهم والتعاقد معهم لتقديم الورش وتنظيم الملتقيات وعقد الدورات. ان شهرة ونجومية الاشخاص في المجتمع يمكن تشبيهها بانطلاق الصاروخ، الذي وما أن يتخلص من الجاذبية الأرضية حتى ينطلق للفضاء دون عائق، والأمر سيان مع الشهرة، فما أن يبلغ أحدهم الحد الأدنى والمطلوب للشهرة حتى يتجاوز المرحلة تلو الأخرى ويرتقي المنازل العالية، مما يوحي للآخرين باستحقاق ذلك المجد وتلك المكانة. لابد لنا من الوقوف عند الادعاءات وعدم القبول بها دون تثبت، وان نتساءل عن المدربين المعتمدين وعن جهة الاعتماد تلك، ولماذا تكاد تنعدم المعايير الصارمة لمهن ومجالات وممارسات على غرار ما هو موجود عند تقييم مجالات اخرى كالتدريس والتطبيب والتمريض، فهل يعقل أن يسرح المدّعون ويمرحون، ويلصقون الألقاب بأسمائهم دون جهة تسائلهم أو معايير تقيمهم أو رادع يردعهم، بل الأدهى من ذلك حصولهم على دعم واعتراف ضمني من قبل بعض الجهات التي من المفترض أن تتريث قبل اسباغ الشرعية عليهم. إن صناعة الرموز والتعزيز من مكانة المشاهير والاكتفاء بما يطفو على السطح، أو ما يفرض نفسه عنوة على الواقع، يعد أمرا في غاية الخطورة، خصوصا إذا ما تم ذلك الأمر من قبل جهات مسؤولة، أو شخصيات اعتبارية، وهو ما يفوّت الفرصة على المجتمع لاكتشاف طاقاته الحقيقية وامكاناته الواعدة. كما أن ذلك يؤدي بالشباب أصحاب القدرات والإسهامات الفاعلة الى النأي بأنفسهم عن تلك البهرجة والسطحية، لتصبح الساحة مفتوحة للمتنطعين دون أن ينافسهم أحد، وهو ما يخلق، وبالقوة القاهرة، نماذج ممجوجة لا تعكس واقع المجتمع الحقيقي، ويشكل قدوات سيئة للأجيال الناشئة، باتباع مجد زائف وشخصيات كرتونية، لأننا تنازلنا وقبلنا التلاعب بمعايير النجاح التي أصبح جني المال وتحقيق الشهرة دليلاً على بلوغها. وفيما كان جواب أطفالنا فيما مضى على السؤال التقليدي: ماذا تريد ان تصبح مستقبلا؟ هو "طبيب" أو "مهندس"، أصبحت الإجابة أو كادت أن تكون: "مشهوراً" أو "مدربا".