14 سبتمبر 2025

تسجيل

إدارة العبقرية: رؤية استكشافية

05 أكتوبر 2014

لا يختلف علماء التربية في رد الموهبة إلى أصل مادتها اللغوية ممثلة في المصدر الثلاثي (هبة)، كما لا يختلفون في أن الهبة مرجعها إلى الله الوهاب سبحانه وتعالى. ولكنهم يختلفون فيما يلابس هذا اللفظ من مفردات تشاركه الدلالة على التفرد وروعة الإنجاز. فيذكرون التميز Distention ويذكرون الذيوع أو الاشتهار Eminence ، ويذكرون الموهبة Giftedness أو العطاء Talent أو الإبداع Creativity أو العبقرية Genius ، وكل هاتيك المفردات تصب في خانة واحدة هي تمكن عقل المرء من تقديم الجديد المبهر في أي مجال من مجالات العمل، فالتفوق العقلي Mental Superiority هو القاسم المشترك الأعظم بين تلك المفردات المتناطحة حيناً، أو المتآلفة في أكثر الأحيان. وقد يلحظ قارئ البحوث التربوية الحديثة أن الإنجليزية المعاصرة – وبخاصة في كتابات الأمريكيين- تجافت عن كثير من المفردات السابقة، ولم تعد تستعملها، واكتفت بلفظ واحد منها هو التفوق العقلي أو الموهبة. وقد يلحظ قارئ البحوث التربوية العربية أن باحثينا العرب يستنزفون كثيراً من أحبارهم وأوراقهم وجهودهم وأوقات قرائهم في الرجوع إلى المعاجم العربية القديمة التي ترد بعض هاتيك المفردات إلى قوى غيبية كالجن أو الشياطين. فيتحدثون عن "وادي عبقر" الذي تسكنه الجن، وتصيب من يلم به بشيء من المس يجعله "عبقرياً" فذا لا يقاس به أقرانه. ويتحدثون عن أولئك الشياطين الذين يشاطرون الشعراء أرواحهم –وربما أجسادهم !!- فيلهمونهم ما يقولون من شعر تتجلى فيه أرقى صور الإبداع، كما قال قائلهم: إني، وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى، وشيطاني ذَكَرْ!! غير أننا لن نخوض في تلك السفسطة اللغوية التي لا طائل من ورائها ولنقل –ببساطة- إن العبقرية والنبوغ والإبداع والتفوق والابتكار والموهبة ألفاظ متقاربة الدلالة. فكأنهم بشرٌ بنو عمومة أو أبناء عَلاَّت!! ونكتفي بلفظ (النبوغ) ليتحدث باسم أبناء عمومته أو بني علاته جميعاً، وهنا نسألأ : من أين يأتي النبوغ؟ وكيف ملحظه؟ منابع النبوغ: تنمو قدرات الطفل، وتظهر مواهبه في سن مبكرة، وهناك دراسات حديثة تشير إلى أن هناك بيئات أسرية توفر للأطفال الجو المناسب للتميز والإبداع، وتتميز تلك البيئات بأنها "مشاتل" – بلغة الزراعيين- تنمو فيها الموهبة وتترعرع. كما أثبتت دراسات أخرى أن المدارس، ولاسيما الأولية منها، تساعد الموهوبين من الأطفال على إبراز تفوقهم إذا أحسنت تربيتهم، وقد تتسبب – إذا لم تع رسالتها حق الوعي- في كمون مواهبهم، أو تشردهم أو إخفاقهم الدراسي. على أنه يجب الانتباه إلى أن التفوق الدراسي، وارتفاع معدل التحصيل ليس مؤشراً دائماً على النبوغ والعبقرية، فقد يكون مجرد نتيجة لجهد مبذول في الحفظ وإتقان مهارات الإجابة. أما المنابع الحقيقية للنبوغ فيمكننا إجمالها فيما يلي: 1- الأسرة الصالحة: ونعني بها الأسرة التي توفر لأطفالها قدراً كبيراً من التشجيع لكي يظهروا قدراتهم، وتلبي حاجاتهم النفسية للظهور والشعور بالأمان والثقة بالنفس، وهنا يجب أن ننبه إلى بعض المزالق التي تقع فيها بعض الأسر فتعوق إبداع أبنائها، وتلقي بهم في مهاوي الانزواء والانطواء والنكد، فتتوقف قدراتهم العقلية عن النمو، وتنكسر أجنحة طموحهم، فيمكثون حيث هم. ومن هذه المزالق أو الخطايا التربوية: أ‌- ارتفاع مستوى طموح الوالدين كثيراً عن مستوى قدرات أطفالهم العقلية. فهذا الأب يصر على أن يلتحق ابنه بكلية الطب أو الهندسة، والابن لا يحب الرياضيات أو العلوم التطبيقية، بل يميل –بفطرته- إلى الآداب والفنون مثلاً، فينشأ عن هذا التعارض في الرغبات، شعور بالعجز لدى الطفل عن تلبية رغبة والده، فتتحطم نفسيته وقد يفشل تماماً في حياته. ب‌- التذبذب في معاملة الأطفال. بالرضا المبالغ فيه حيناً، والسخط الشديد حيناً آخر. ت‌- التفرقة بين الأبناء. ث‌- المبالغة في العقاب عند وقوع الخطأ من الطفل. فعلى الأسرة التي تريد أن تكون (محضناً) للموهبة، ومنبعاً من منابع النبوغ، أن تتفادى الوقوع في الخطايا التربوية السابقة، لما سيكون لها من أثر نفسي مدمِّر لمعنويات الطفل وطموحه. 2- الثقة بالنفس: إن أعظم عائق يعوق النبوغ هي الخنوع والانكسار والشعور بالعجز والضعة، فهذه الأحاسيس –الناجمة غالباً عن قهر نفسي أو اجتماعي- محبطة بل ومدمرة. والفرد الذي يعاني أياً من تلك الأحاسيس السلبية، يتعذر عليه أن يبدع أو يبتكر، فالنفس المثقلة بمشاعر الإحباط لن تتمكن من إظهار مواهبها. وعلى العكس من ذلك، فإن الفرد الذي يثق بنفسه، يستطيع في كل مواقف حياته أن يعبر عما يجيش بصدره، ونراه دائماًَ سبّاقاً إلى التنافس، مبادراً، متحكماً في انفعالاته، مبدعاً، مجدداً في أفعاله، ابتكارياً في ردود أفعاله، شديد الذكاء في تعبيره عن نفسه وعن أفكاره، يتمتع بقدرة عالية على تجاوز المخاطر وامتصاص صدمات الحياة ومفاجآتها. ومن هنا قلنا إن الثقة بالنفس منبع أصيل من منابع النبوغ والعبقرية. وحتى تتوفر للفرد ثقة كبيرة بنفسه، يجب أن يحرص – طول الوقت- على صفاء الذهن، ويجب التخلص من ركام المعاناة النفسية التي قد تصادف مسيرته أو تهدد طموحه. ويمكن للأسرة غرس الثقة بالنفس في شخصيات الأبناء بتعويدهم على التصرف في المواقف المختلفة بحرية، وتكليفهم القيام بمهام تتناسب مع نموهم وقدراتهم من حين لآخر حتى يتعودوا تحمل المسؤولية فتزداد ثقتهم بأنفسهم. 3- الدافعية للإنجاز: محدودو الطموح يستحيل أن يكونوا من الموهوبين النابغين، فالموهبة والنبوغ لا ينبعان إلا من نفسية طموحة، وقلب جسور، وهمة عالية، وقديماً قال المتنبي: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم وقال أبو العلاء المعري: وإني- وإن كنت الأخير زمانه- لآتٍ بما لم يستطعْهُ الأوائلُ والمعنى أن الإنسان يجب عليه دائماً أن يتغيا أشرف الغايات وأسماها، وأن يتطلع إلى أعلى الأهداف، فهذا من شأنه أن يحفزه نحو المزيد من العمل والاجتهاد فتظهر مواهبه، وتتجلى قدراته، وتُشحذ همته، فيبدع ويتألق. 4- تعلم القراءة مبكراً: بالرغم من تزايد منافسات القراءة من وسائل المعرفة التقنية، فما يزال الكتاب أو المجلة أو الصحيفة مصدراً أفضل من مصادر المعرفة. وكلما بدأ الفرد مبكراً في تعلم القراءة، ازدادت فرصته في النبوغ والتفوق، لأن القراءة مهارة تتضمن مهارات، وعملية تحفل بعمليات عقلية مركبة، وإذا تأملنا تاريخ كثير من علمائنا في القديم والحديث، وجدنا أكثر النابغين تعلموا في مكاتب تحفيظ القرآن الكريم، حين كان الأطفال يلتحقون بها بدءاً من السنة الرابعة من العمر، فيتعلم الطفل حروف الهجاء أولاً، ثم الكتابة، ثم يبدأ في حفظ القرآن الكريم، وقد يقطع فيه شوطاً قليلاً أو كثيراً –حسب قدراته- قبل السادسة. ومن تراث علم النفس المعاصر تلك التجارب التي أجراها عالم النفس (ثيرمان) على مجموعة من النابغين عايشهم خمساًَ وثلاثين سنة مراقباً لسلوكياتهم ومتابعاً لنمو مواهبهم. فقد توصل (ثيرمان) إلى أن 2% من مجموع هؤلاء النابغين وعددهم (1528) ثمانية وعشرون وخمسمائة وألف موهوب، تعلموا القراءة قبل السنة الثالثة من أعمارهم، وأن ستة بالمائة 6% منهم تعلموا القراءة قبل السنة الرابعة، وأن عشرين بالمائة 20% تعلموا القراءة قبل سن الخامسة، وأن ثلاثة وأربعين بالمائة 43% تعلموا القراءة قبل سن السادسة. وإلى مثل نتائجه أو قريباً منها توصل غيره من علماء النفس المعاصرين. مما يدل دلالة قاطعة على أن التميز والنبوغ مرتبط بالتعلم المبكر للقراءة. ولا عجب في هذا فالقراءة منبع ثري من منابع المعرفة، وبالمعرفة تتفتق الأذهان، وتستثار الدافعية للإنجاز، ويتحفز الفرد لتنمية ذاته، وتحقيق السبق على أقرانه. هذه هي أهم منابع العبقرية والنبوغ، أو بتعبير آخر : هي البيئات التي تتعلق فيها بذرة النبوغ وتتفتح، ويكون الباقي هو التعهد والرعاية حتى تنمو وتترعرع وتؤتي أكلها بإذن ربها بعد ذلك برعاية من الفرد نفسه لنفسه، ومن الأسرة ومن المدرسة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف تلاحظ الأسرة أو المدرسة أنها أمام "مشروع" عبقرية؟ أو أنها أمام إنسان يمكن أن يكون في يوم من الأيام من مشاهير النوابغ؟ وهذا ما ستجيب عليه الفقرة التالية: سمات المبدعين والنوابغ: لكل عبقرية مقدمات، ولكل نبوغ شواهد، ولكل تميز مؤشرات، ومهمة الوالدين والمعلمين مراقبة أطفالهم. فإذا آنسوا في الطفل شيئاً من ذلك، كان عليهم أن يعاملوه معاملة خاصة، ولكنها معتدلة، فلا يصح أن تدفعهم فرحة العثور على مؤشر من مؤشرات التميز، أو علامة من علامات النبوغ، إلى الإفراط في تدليل هذا الطفل، أو إغراقه بالحنان أو تفضيله على إخوته بصورة ملحوظة. بل إن الواجب عليهم أن يحققوا له قدراً أكبر من الحرية، والشعور بالمسؤولية، لتزداد ثقته بنفسه، ثم إن عليهم أن يوفروا له مطالبه جهد طاقتهم. فالشاعر القديم يقول في هذا المعنى: وإذا رأيت من الهلال نموّه أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً ومن علامات العبقرية: 1- النضج الاجتماعي: يبدأ النمو الاجتماعي مع الطفل بعد نحو ستة أشهر من مولده، حين تبدأ عينا الوليد التركيز فيمن يحيطون به من الوالدْين والإخوة والأجداد، وينمو الطفل اجتماعياً عاماً بعد عام، فيبدأ سلوكه الفردي في التطور حتى يكتمل نضجه الاجتماعي مع اكتمال عامه الثامن عشر، ويكون بذلك قد اكتسب – بفعل التنشئة الاجتماعية- قواعد السلوك المقبول اجتماعياً، فأصبح يمارس حياته بوعي كامل، فيتفادى ما لا يقبله الآخرون، ويقبل على ما يحببه إلى مخالطيه. ويتفوق بعض الأطفال على بعض في النضج الاجتماعي، فهناك من يتميز بالكياسة واللباقة فيكتسب محبة الآخرين وتقديرهم بسهولة وسرعة، وهناك من يغلب عليه الجموح، والعنف، وسوء التصرف، فتتكون إزاءه اتجاهات سلبية من مخالطيه من الأهل والزملاء والصحاب. والنجاح في إدارة الحياة بمهارة وكفاءة دليل على قوة النضج الاجتماعي وسلامته من العيوب، ومن ثم فهو مؤشر من مؤشرات العبقرية والنبوغ، فقد أثبتت دراسات نفسية متعددة في الشرق والغرب أن من حققوا نبوغاً ملحوظاً، تبين من دراسة تواريخ حياتهم أنهم كانوا ناضجين اجتماعياً بصورة واضحة. 2- قوة الذاكرة: تعد قوة الذاكرة مؤشراً واضحاً من مؤشرات النبوغ والعبقرية، فإذا لاحظت الأسرة أن أحد أبنائها قوي الذاكرة، سريع الحفظ، فيجب عليها –وكذلك المدرسة- أن تدرك أنها أمام موهبة جديرة بالرعاية. ويروى أن أبا العلاء المعري كان يحفظ من كلمات العربية أضعاف ما في معجم (لسان العرب) على ضخامته. . ويروى عنه طرائف كثيرة في مجال قوة الذاكرة، فقد فقالوا إنه سمع شاعراً شاباً في الشام حيث كان يعيش، وسأله الشاعر الشاب عن رأيه في شعره الذي سمعه، فقال له أبو العلاء:"أنت أشعر مّنْ بالشام". وبعد عشر سنوات كان أبو العلاء في رحلة إلى بغداد – مقر الخلافة العباسية- وكان ذلك الشاعر قد ذاع صيته، وانتقل إلى البلاط العباسي، فلما سمعه أبو العلاء، وانتهى الشاعر من إنشاد قصيدته سأل أبا العلاء عن رأيه فيما سمع، فقال أبو العلاء" . . ومَنْ بالعراق!!" أي أنك : أشعر من بالشام ومن بالعراق!! ، فاستخدم " واو" العطف ليعطف به جملة حالية على جملة قالها قبل عشر سنوات!! 3- حب الاستطلاع : ومن علائم النبوغ أيضاً: حب الاستطلاع، فإنه سمة أثبتت الدراسات العلمية توفرها في المبدعين والنوابغ، فحب الاستطلاع يدل على رغبة الفرد في اكتشاف أسرار ما حوله، والتنقيب عن كل كبيرة وصغيرة، وفي هذا تنشيط لقدرات العقل لكل تعمل وتربط الأسباب بمسبباتها، والحركات بدوافعها. 4- الميول العلمية: والميول العلمية أيضاً من مؤشرات العبقرية وتظهر في سلوكيات الطفل، حين تلحظ الأسرة، أو المدرسة، ميله إلى الفك والتركيب، وممارسة العمل اليدوي، والعبث في الأجهزة والأدوات بشغف ومحاولة للفهم والإدراك. وفي هذا السياق تشير الدراسات إلى أن من المهم ترك الأطفال على سجيتهم حين يقومون بهذه الممارسات مع مراقبتهم من بعيد خشية أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة وهم لا يشعرون. ففي الحالات الأربع السابقة يجب على الأسرة والمدرسة أن تدرك أنها أمام حالات من النبوغ تحتاج إلى فرص الإظهار والتشجيع حتى تؤتي ثمارها.