13 سبتمبر 2025
تسجيلذكاء أبي حنيفة في حادثة لطيفة ومعبرة جرت وقائعها مع الإمام أبي حنيفة النعمان تقول هذه الحادثة: أتى جماعة من الدهريين (الذين يقولون بأن الطبيعة والدهر يمشون بشكل عشوائي وانتقائي وهم الذين يتصرفون في الأشياء والمخلوقات فما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر كما يقولون) جاء هؤلاء ليناقشوا أبا حنيفة في وجود الله سبحانه، فواعدهم في اليوم التالي بعد صلاة العصر على ضفة نهر دجلة، فجاءوا في الموعد المحدد لكن أبا حنيفة لم يأت!! انتظروه طويلا حتى كادت الشمس تغرب، فإذا به يأتي مسرعا، قالوا: كيف وأنت إمام المسلمين لا تف بوعدك ولا تلتزم بموعدك؟ قال: لقد جرى لي عجب فاسمعوا حتى تعذروني، وقفت على ضفة النهر الأخرى أريد أن آتيكم في موعدكم فلم أجد قاربا ولا مركبا يحملني فانتظرت وانتظرت فلم أجد أحدا، وبينما أنا أنتظر إذا بلوح خشب يأتيني لوحده ثم جاء لوح آخر فانضم إليه ثم تجمعت ألواح معهم فصنعوا قاربا دون أن يمسسهم أحد، فركبت فإذا القارب يمشي لوحده حتى وصلت إليكم فهذا ما أخرني، قالوا: أتهزأ بنا يا إمام أم تستخف بعقولنا؟ قال أبو حنيفة: إن كنتم لا تصدقون أن قاربا من خشب لا يجتمع لوحده ولا يسير من غير قائد، فكيف بهذه الأرض وفجاجها وهذه السماء وأبراجها وهذه البحار وأمواجها كيف صنعت من غير خالق أم كيف تسير من غير إله؟ هذه القصة اللطيفة والدليل العملي والنظري الصاعق ينطبق على كثير من مجريات حياتنا ولعل محور هذه الزاوية أيضا هو من الأمور الواضحة التي يصح أن نقول فيها ما نقول في غيرها من أن هناك أمورا يستحيل أن تأتي بشكل عشوائي أو تتم بطريقة اعتباطية أو من تلقاء نفسها، فمن يفكر بالتغيير فلا بد له من محرك ورؤية وخطة، وهذا ما نسميه معادلة التغيير، فإذا أردنا – أفرادا أم مجتمعات ودولا وأمما – أن نغير حالنا وموقعنا ومكانتنا فلا بد أن تتم المعادلة بطريقتها الصحيحة وخطواتها الملموسة، فالثورات التي قامت وتقول مبادرة رائعة وتطور عظيم من شبابنا، لكنها إن لم تتبع بمخططات واضحة للتطوير والتغيير فلربما تعود الأمور كما كانت وذهبت تضحيات شبابنا، صحيح يكفي أننا أزلنا طغاة وأنظمة فاسدة لكن الصواب أن نكمل المسيرة بخطة واضحة ورؤية كاملة. معادلة التغيير تتكون معادلة التغيير من أربعة أشياء غاية في الأهمية: أولاً- دراسة الواقع: وتجيب دراسة الواقع وتحليله على سؤال أين نحن اليوم؟ ثانياً- الرؤية: وتجيب الرؤية على سؤال إلى أين نريد أن نصل؟ ثالثاً- الخطة: وهي تمثّل عملية الانتقال من الواقع إلى الرؤية، وتجيب على سؤال كيف نصل إلى ما نريد؟ رابعاً- المقاومة: وتجيب المقاومة على سؤال ماذا يمنعننا من تحقيق أهدافنا؟ دراسة الواقع ووضع رؤية والخطة، هذه الثلاث مجتمعة تسمى التخطيط، فإذا أضفنا إليها عنصر المقاومة أصبح لدينا خطة تغيير، أو نموذج تغيير، أو معادلة تغيير، فالتخطيط جزء من عملية التغيير، ومرحلة من مراحلها المهمة. أولاً- دراسة الواقع: قلتُ: إن دراسة الواقع وتحليله تجيب على سؤال أين نحن اليوم؟ ما هو موقعنا بين الأمم وما هي إمكاناتنا وكيف ندير أمورنا؟ ولدراسة الواقع طرق كثيرة، منها طرق تقليدية، والتي من أشهرها طريقة: (SWOT) التي تبحث في معرفة وتحليل نقاط القوة، نقاط الضعف، الفرص، المخاطر، وهي طريقة تقليدية لا تصلح للتخطيط الاستراتيجي، وإنما مجالها التخطيط التشغيلي، فلو أردنا مثلاً أن نسجّل نقاط القوة ونقاط الضعف في أمتنا، لاستغرقنا وقتاً طويلاً، وربما عجزنا عن إحصائها لكثرتها. في دارسة الواقع سأستعمل آخر ما توصل إليه علم التخطيط الحديث من طرق ونظريات، لذا سأبحث في أمرين اثنين: (1) الأزمات الرئيسية: ونعني بها أكبر السلبيات، وأقصى نقاط الضعف التي تعاني منها الأمة، وسنعرض خمس أزمات وجدت بالتحليل أنها أكبر المشكلات التي تعاني منها الأمة، سنحدد الأزمات ثم نقترح مشاريع عملية لعلاجها. (2) القدرات الأساسية (core competence): وهي شيء أكبر بكثير من نقاط القوة، وأنا أزعم أن أي شخص، أو شركة، أو جمعية، أو جماعة أو أمة تستطيع أن تكتسح منافسيها إذا استطاعت أن تحدد قدراتها الأساسية. في المقالات القادمة سنحدد الأزمات الرئيسية التي تعاني منها الأمة، وسنذكر شرحاً وافياً لمفهوم " القدرات الأساسية " وكيفية تحديد هذه القدرات. والمهم في دراسة الواقع ألا نجمل لأنفسنا ولا نصنع مشكلات من أوهامنا أي نكون واقعيين وموضوعيين وهذا أساس النجاح في دراسة الواقع. ثانياً- الرؤية (vision) في علم التخطيط الاستراتيجي هناك مستويان للرؤية: - غاية إستراتيجية (intent strategic): ما الذي نريد أن نصل إليه على المدى الطويل، خلال خمسين أو مائة سنة، والإجابة باختصار هي أننا نريد بناء واستعادة حضارتنا من جديد، حضارة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له غاية وهي نشر الدين وإيصاله للعالم وقد استغرق هذا عشرات السنوات. - رؤية إستراتيجية (strategic vision): ما الذي نريد أن نصل إليه على المدى المتوسط والقصير، خلال ثلاث أو خمس سنوات (فالمراحل مطلوبة في كل أمر كبير أو تغيير عميق لنقسم الرحلة الطويلة ولنعلم أننا نسير في الاتجاه الصحيح فهي مرحلة شحن للمعنويات ومرحلة تقويم للمسار) في المقالات القادمة سنتحدث عن توصيف حضارتنا الإسلامية التي نريد، كما سنتحدث عن الأهداف التنافسية التي نستطيع أن نحققها – بإذن الله تعالى – في أقل من عشرين سنة، أهداف على مستوى الأمة، وأخرى على مستوى البلدان. ثالثاً- الخطة وهي تمثّل عملية الانتقال من الواقع إلى الرؤية، وتجيب على سؤال كيف نصل إلى ما نريد؟ وهنا سنقوم بأمرين: - سنقسم العشرين سنة إلى أربع مراحل (خطط خمسية)، وسنحدد أهداف كل مرحلة، وما يجب أن نحقق فيها من أهداف. - سنتحدث عن تقسيم الأدوار، بدءاً بدور الفرد مروراً بدور الجماعات والمنظمات، انتهاءً بدور الأمة المسلمة. رابعاً- المقاومة (Resistance) سنتحدث عنها تباعا بشكل موسع أكثر لكن ما أود أن أبينه أن المقاومة هي لكل تغيير هي سنة كونية وفطرة إنسانية فالإنسان يخاف المجهول ولا يتحمس لغير المألوف والمعروف ويخشى المستقبل وهذه كلها تجعل التغيير عنيفا عند أهله بل إن كثيرا من محاولات التغيير تفشل لوجود المقاومات والتعنت. خاتمة ربما يقرأ البعض ويشعر أن ما أطرحه هو مجرد أفكار نظرية أو أحلام وردية لكنني أرد على هذا بأمرين: أولهما إن كل إبداع يبدأ بفكرة وكل تغيير يبدأ بخطة وكل محاولة تبدأ بحلم فما يضيرنا أن نفكر ونخطط ونحاول بل إن الذي يعيبنا ألا تكون لنا خطة ولا يكون عندنا طموح، ولو أن بعضا مما أقوله ممكن وبعضه صعب فلماذا لا نحاول الممكن ونتقدم ولو خطوات؟ ولماذا نستكثر على أنفسنا حتى مجرد التفكير والطرح والتخطيط؟ وثانيهما: إني على يقين أن من يحاول سيصل في نهاية المطاف وهذه أيضا سنة كونية، ومن يخطط بطريقة صحيحة لابد وأن يتقدم وهذا مالا ينكره عاقل. بل أقول أكثر من هذا، يكفي أن نعرف كيف نفكر وأن نتعود طرح التغيير والرؤى والأفكار بشكلها ومسارها الصحيح، والله الموفق.