17 سبتمبر 2025
تسجيللا يقتصر الأمر على الانقلاب الأخير الذي فشل، ولا على ما قام به الغرب من أعمال تمهيدية إعلامية وسياسية ودبلوماسية للتهيئة لهذا الانقلاب، إذ الغرب منخرط في لعبة الانقلابات في تركيا، بل هو منخرط في حرب ناعمة عليها منذ وقت طويل. الغرب منخرط في لعبة الحكم والنظام السياسي وفي تحديد السياسة الخارجية لتركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وفق خطة محددة تستهدف الحفاظ على الدور الوظيفي المحدد لتركيا - بعد الحرب - ضمن الإستراتيجيات العليا للغرب الذي انتصر على تركيا. لقد انتهت الحرب العالمية الأولى بإزالة "خطر" الدولة العثمانية أو بالأحرى دولة الخلافة العثمانية على أوروبا - هكذا يرى الغرب - إذ جرى تفكيك كيانها الخارجي الإمبراطوري الضخم، والأهم أنه جرى الانقلاب الاتاتوركي في داخلها لضمان عدم عودتها إلى ما كانت عليه. وبصراحة ووضوح فالغرب منخرط في لعبة الانقلابات داخل تركيا منذ نحو 100 عام، أو منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، وما الانقلاب الأخير، إلا أحد تجليات حالة صراعية تاريخية طويلة ممتدة، حتى يمكن القول إن المعركة التي تخوضها تركيا ضد الانقلاب الفاشل الحالي – ولمواجهة احتمالات وقوع انقلاب آخر - ليست إلا حالة من حالات الصراع مع الغرب لا أكثر ولا أقل، وليست إلا صراعا يدور حول نتائج الحرب العالمية الأولى التي ما تزال تحكم مصائر الأمور في عالمنا الإسلامي – سايكس بيكو – وتركيا ليست استثناء بل هي الحالة الأعمق والأشد تأثرا وتأثيرا. لم تكن الأتاتوركية إلا انقلابا غربي الملامح والفكر والأهداف الحضارية والإستراتيجية، وهو انقلاب جرى على خلفية استكمال وتطوير نتائج الانتصار الغربي على تركيا، لضمان منع عودة تركيا إلى ما كانت عليه قبل الحرب الأولى التي كان الأصل فيها إنهاء دور تركيا واستعمار الدول التي كانت خاضعة لسيطرتها. ومن وقتها وحتى الآن والغرب يصنع ويدعم هذا الانقلاب وكل انقلاب بعده على من يحاول تغيير مسار تركيا. وإذ جاءت الحرب العالمية الثانية لتؤكد على سير تركيا على خط دورها الوظيفي المحدد بعد الحرب الأولى، بل جرى تعميق الحالة الغربية في تركيا عبر ضم تركيا لحلف الأطلنطي لتصبح ضمن دورة الحرب الباردة - بما شكل إقرارا بانتهاء دورها الدولي عامة والأوروبي خاصة – فالأخطر أنه جرى تثبيت دور الجيش التركي أو قيادته كحارس لتلك الوضعية الإستراتيجية (داخليا وخارجيا)، إذ صار يواجه أو يقمع كل تحرك خارج إطار تلك الحالة. الغرب في الأصل داعم للانقلاب العام في حياة تركيا الداخلية وللانقلاب الحاصل في دورها الاستراتيجي. والغرب منخرط في حرب سيطرة ناعمة دائمة – وخشنة حين يتطلب الأمر - ضد كل من حاول الإفلات بتركيا عن نتائج الحرب المثبتة عبر الانقلابات العسكرية. لقد حاول عدنان مندريس الخروج على تلك الثوابت الغربية فأقصى وأعدم – بدعم غربي كامل - وجرى من بعد إقصاء نجم الدين أربكان بنفس الطريقة، ومنذ مجىء أردوغان للسلطة، وبشكل أدق، منذ بدأ مرحلة إظهار أفكاره الباحثة عن الاستقلال والهوية الحضارية والمطامح الإستراتيجية لتركيا، والغرب متربص به وبتجربته عبر أدوات كثيرة من بينها الانقلاب العسكري. لقد احتضنت عواصم أوروبية القيادات والنشاط الإعلامي والسياسي لحزب العمال الكردستاني، للإمساك بأوراق الضغط والتفكيك التي تهيء الأجواء للانقلابات، كما أشعل الغرب حربا على امتدادات الدور بين الجاليات الإسلامية في أوروبا، إذ أقر البرلمان النمساوي قانونا - في عام 2014 - بقطع التمويل التركي للأنشطة الدينية في أوروبا وتسريح العاملين فيها، وكذلك فعلت بلجيكا، ووصل الأمر في ألمانيا حد الدعوة المباشرة لإنهاء التدخل التركي في الإسلام الأوروبي، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي فقد كان الأمر شديد الفجاجة، إذ جرى إعلان بتمويل مشروع صحفي تحت عنوان كشف ما وصف "بالدمى التركية في داخل أوروبا" التي اتهمت بالسعي لنشر ما وصف بالأيديولوجية الأردوغانية. الغرب داعم للانقلاب الحاصل على تركيا من داخلها منذ نحو 100 عام، وهو في حرب على دورها الاستراتيجي من داخلها وفي خارجها.