15 سبتمبر 2025
تسجيلاستوقفتني مؤخرا اقصوصة جاءت على سبيل النكات الساخرة بعثها لي احد الزملاء في رسالة الكترونية وهو من الخبراء التربويين المحنكين في مجال التربية والتعليم على مستوى الوطن العربي، حيث تقع في مجال اهتماماتنا المشتركة، وإن كانت لدعابة، فإنني أحببت أن أشارككم روحها وعذرا لأنها منقولة من المصدر بالعامية ممثلة في:(قصة الثعلب والغراب) واليكم القصة: "رأى ثعلب غراباً فوق شجرة وفي فمه قطعة جبن فقال له الثعلب: ما أجمل صوتك أيها الغراب لماذا لا تغرد لنا؟ فوضع الغراب قطعة الجبن تحت جناحه وتفل على الثعلب وقال: تحسبني الغراب إللي في كتاب القراءة يا ابن ال.... فقال الثعلب: ? لست انا الثعلب الذي في كتاب القراءة.. فقال الغراب: من انت؟ فقال: إنني ثعلب أحب الغناء والطرب! ومن عشاق موضي وعبدالمجيد عبدالله... فغنى له الغراب ورقص الثعلب وقام بالتصفيق للغراب فاشتد حماس الغراب.. فقال له الثعلب ثنتين صفقه ياغراب.. تنكككككس فتنكس وسقطت قطعة الجبن.. فقال له الثعلب: خل جلسات وناسه تنفعك!!!! أنا الثعلب اللي في كتاب القراءة.. المنهج المطور.. أضحكتني الدعابة، وأعادتني سنوات الى الوراء يوم ان كنا ندرس قصة الحمامة والثعلب في المرحلة الابتدائية في قصص القراءة وهي من القصص المنقولة عن رائعة "كليلة ودمنة"، تذكرت يومها كيف علمتنا المدرسة قيمة عظيمة وهي ان المكر والدهاء آفة من الآفات فحمدت الله ان مدرسينا ربونا على القيم واشبعوها شرحا رغم ان الحمامة المسكينة اكتوت بنار الثعلب واكتوى مالك الحزين الذي نصحها لتحتال على مكره، فباغت الثعلب ناصحها "مالك" ففتك به، على رأي المثل "ناصحكم يا عرب فاضحكم"، هذا حين تلقننا الحياة كل يوم دروسا مؤلمة في كيف يسود المكر والدهاء الأرض، وكيف ان الماكرين يستأسدون من حولنا لتقوض الدنيا الجائرة اليوم ما تعلمه المدرسة. ولتفتك المدرسة بعد ذلك بمعلميها ايضا. ابن المقفع سرد بموضوعية وعن الهندية قصة أوردها بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك لحكمة من الحكم. ولكن عتب البعض على القاص او المؤلف نفسه كيف جعل الثعلب يحقق انتصارين على التوالي على الحمامة الضعيفة البريئة وهي في أعلى الشجرة، وعلى مالك الحزين رغم فطنته وكونه هو الحكيم الذكي، خصوصاً أنها تعرض لنا ونحن أطفال قد لا نميز بين الفضيلة والرذيلة لسيادة الثعلب حتى على مالك الذي ربما وُصفَ لذلك بانه "حزين". لم أكن مع البعض في الطرح لأنني أرى أن المؤلف أبدع في إبراز مكر ودهاء الثعلب الذي لو نجح في الكيد للحمامة لما سمي دهاء ولكنه يطول أيضا من هو أكثر من الحمامة فراسة حتى لو كان على أعتى وأقوى درجات الذكاء إذ بين المكر والذكاء شعرة رفيعة في المكر، لذلك وصفه العرب في المثل: "أمكر من ثعلب"، وكم من ذكي عاقل سقط في براثن ماكر مخادع. ولكن الحكمة في النهاية هي أن المكر لا يستقيم للماكر وهذا هو بيت القصيد، كما يقول المثل العربي: "قد تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت". هذا يبرزها قوله "ص": لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين"، ففراسة المؤمن في عقله، فالمرة الأولى قد تداهمه آفة المكر وخديعة الماكرين لأن المؤمن مفطور على حسن النية بداية، ولكن الثانية تقتضيه الحصافة فلا يلدغ مرتين. أعود لأشكر الدكتور الذي بعث هذه الدعابة الرمزية لأنها في سياق العصر الجديد عزفت على وترين مهمين الأول في مدلول التربية والتعليم والثاني في مدلول التربية والحياة بشكل عام. الوتر الأول: ثعلب المنهج الجديد المطور مازال ثعلبا ولكنه لم يعد بذلك الرقي اللغوي ولا الفكري بل مسه طائف مما طال البشر والمناهج من مس الشياطين والآثار السلبية للعولمة وانحطاط الفضائيات حتى غدا تطبيق سلوكها في درس "الثعلب والغراب" في دعابة المنهج المطور "الساخر" مكرا يوازي شاكلة وذائقة مجتمع الدندنة والرقص والسطحية الفكرية رغم أن المكر واحد وان تعددت أشكاله، سواء كان مكرا راقيا او مكرا منحرفا أو وضيعا. أما الوتر الثاني: هو أن الثعلب لا يخلع جلده أبدا، وان أخفى مكره فذلك منتهى الدهاء والمكر "المذموم" لا الدهاء والشيمة "المحمودة" الموصوفة عند خصمه "الذئب" وان كنا نعتقد بأن هذه الموروثات عند العرب فقط أو الهنود أو الفرس فنحن مخطئون لأنها معايير عامة فحتى فلاسفة اليونان قبل الميلاد اشبعوا مكر الثعلب تبيانا ونقلوا ذات القصة على رواية. الفيلسوف اليوناني إيسوب (620 - 564) ق.م "جلس غرابٌ على فرع شجرة ممسكاً بمنقاره قطعةً من اللحم كان قد سرقها، ورآه الثعلب، فأراد أن يأخذ منه هذه القطعة من اللحم، فجلس تحت الشجرة وراح يتغزل في الغراب ويصفه بأنه طائرٌ جميل، وأنه ينبغي أن يكون ملكاً على جميع الطيور، وهو بالقطع سيكون ملكاً لو أنه يملك صوتاً جميلاً كذلك... الخ ". حتى اليابانيون وآخرون متأخرون اجمعوا ضمن بحوث المفاهيم الثقافية على اعتبار الثعلب رمزاً للمكر والاستراتيجية والتفكير السريع. "وقد صوّر الكُتّاب الذين كتبوا قصصاً أخلاقية على ألسنة الحيوانات "bestiary writers" الثعلب الأحمر كرمزٍ للمكر. حيث تعني الكلمة اللاتينية "Vulpis"، والتي اشتقت من volupes، "القدم الملتوية" في إشارةٍ إلى الحقيقة المفترضة بأنّ الثعالب لا تسير أبداً في خطٍ مستقيم! لكنّ الحقيقة العلمية أنّ الثعالب تتبع مساراً مستقيماً عندما تكون مطاردةً، أما عندما تطوف بحثاً عن الطعام فإنها تطوف في سائر الاتجاهات. وبما أنّ الحيوان الذي يتبع مساراً ملتوياً يكون مراوغاً، فقد اعتبر ذلك جزءاً من مكر الثعلب". ومن حيله انه عندما يكون جائعاً يستلقي ساكناً تماماً مغلقاً عينيه، ويكون لسانه متدلياً من فمه، ويحبس أنفاسه، كما لو أنه كان ميتاً. وعندما تراه الطيور الجائعة تظنّ بأنه ميتٌ فتدنو منه فينقض عليها فريسةً سهلة. قد يمشي الثعلب مستقيما فقط عندما يريد مصلحته، اما اذا كان هو صاحب الهدف فلك الله من التواء مساراته، حفظ الله مناهجنا من مس الشياطين وحفظكم الله من شر مصائده. ما أجمل قصص الماضي وما أجمل عبرها، وصدق أحمد شوقي عندما لخص مكمن الحذر بقوله: مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أنّ لِلثَّــعلبِ دِينـا كاتبة وإعلامية قطرية Twitter: @medad_alqalam medad_alqalam @ yahoo.com