12 سبتمبر 2025
تسجيلفي العاصمة عمّان ، وفي فندق " نفرتيتي" الشعبي المتواضع صاحب النجمة الواحدة والذي بات عنوانا مميزا للمباني القديمة وسط حي "الشميساني" الأرستقراطي القديم ، أصابتني حالة من الحزن الشديد والانهيار المعنوي والنفسي ، وفجأة رأيت كم أننا بلاد قذرة الأخلاق رغم نفطنا وثرواتنا وصلاتنا وجيوشنا المدججة بالسلاح الغالي الثمن ، ورغم مشاريع التنمية الكاذبة التي تسوق لها وسائل الإعلام المتخلفة كأصحابها ومرجعياتها السياسية في بلاد العرب، ليست المرة الأولى ولكنها الأصعب، هناك كل شيء ينهار أمام الطفل "علي أبو موسى" أطراف مشلولة وحَوَل في العينين وصعوبة في النطق وزحف على الركبتين ، وعويل يمزق حشاشة القلب ، والتشخيص الصحيح لمرضه هو غزة .علي ذو الست سنين مرض وغربة ، أصيب نتيجة خطأ طبي في أحد مشافي غزة، وكان عمره لا يتجاوز الشهرين ، ولم يجد أي عناية أو علاج نتيجة ما يعرفه الجميع ،الحكام العرب جميعهم وشعوبهم أيضا والعالم كله ،الحصار والنقص في العلاج والكوادر الطبية والمواد التموينية ، ومصائب الدنيا وعلى رأسها الإرهاب الصهيوني ، ما اضطر والده إلى السفر به إلى أوكرانيا لعلاجه في مستشفياتها ، واليوم يغلق أبوعلي عامه الرابع في رحلة علاج ابنه الذي لا يعرف في الدنيا سوى والده الذي يحمله على كتفه حتى اليوم .. والطفل لا يعرف للأسف أمه سوى على الهاتف ، اتصلت به وهو يجلس في حضن والده ليلة البارحة أمامي على طاولة كان يجلس عليها قبل عشر سنوات صالح المطلق ،، نعم صالح المطلق الذي أصبح في زمن العرب الرديء نائبا لرئيس وزراء بغداد .هل سمعتم برحلة الدبّ في حقل الألغام ، إنها رحلة ذلك الطفل ووالده ، الذي يسكن في ذلك "الموتيل" لأنه لا يملك المال ولا يستطيع الدخول إلى غزة ولا العودة إلى أوكرانيا ، ولا يستطيع الموت ولا يملك الحياة ولديه سرّ عظيم : لقد ربط الله على قلبه ومنحه الصبر والقوة ، وتراه رغم ما كابده من أهوال يتكلم بهدوء ويتعانق هو وطفله ، تماما كما يتعانق الحمام على سلك الكهرباء عالي الفولتية .يسرد أبو علي قصته المختصرة علينا ،فيقول جلست عاما كاملا في أوكرانيا لا أرى أحدا سوى طفلي ، أحمله صباحا إلى المستشفى ، وأعود به إلى البيت مرورا بالسوق لأشتري الطعام وهو محمول على كتفي ،حتى بت أتحدث معه بكل شيء وعن كل ما يخطر على بالي وأنا أعلم أنه لا يفهم شيئا ، ثم بعد سنتين قررت أن أعود به إلى غزة، وانتظرت طويلا ليفتح المعبر، وبعد رحلة عذاب دخلت إلى خان يونس وقضينا شهر رمضان مع العائلة وهي المرة الأولى التي يتعرف بها "علي" على أمه وأشقائه طفلين وفتاة ، ثم عدنا بعد العيد إلى أوكرانيا في رحلة هروب كبرى من سجن غزة .هنا وقبل أن تنتهي مساحة المقالة ، لنتعرف على مأساة غزة التي نسيها العالم ، ولنكمل مع علي ووالده الصابر ، يردف أبو علي بالقول لم تنته رحلة العلاج بعد ، ولكن يجب أن أعود به إلى غزة لتراه والدته ولنحضر حفل زفاف شقيقته التي بلغت الثامنة عشرة ، وهي ترفض الخروج من المنزل إلا بيدي ، لقد اشتريت لها فستان الفرح وبعض الملابس والهدايا ، ولكن ها أنا لا أستطيع الدخول إلى غزة ، فقد سافرت وعلي بالطائرة من أوكرانيا إلى مطار القاهرة ، وهناك أعادتني سلطات المطار، فحجزت إلى شرم الشيخ لعلي أجد هناك مخرجا ، ولكن لم أفلح ، فعدت إلى القاهرة، وفي المطار احتجزني أمن المطار وطفلي على صدري وتم احتجازنا في غرفة ضيقة برفقة أكثر من ستين شخصا حتى موعد الطائرة ،حيث تم إعادتنا إلى تركيا ، وهناك أخبروني بضرورة مغادرة المطار ونصحوني بالسفر للأردن ، وبالفعل وصلت إلى عمان منذ أسبوعين وأنا انتظر "التنسيق" ولكن يبدو أنه لن يأتي ، والتنسيق يعني مع السلطات الإسرائيلية لإدخالهم عبر معبر كرم سالم ، ويختم أبو علي بكليمات :" أيش أعمل ، الله يتجازى منهم ، مشكلتي هي مشكلة كل غزة،الكل يلعب فينا..ربنا كبير"لهذا أيها العرب ،وبين يوم وليلة من الممكن أن تتغير أحلام الشباب بعائلة ومسكن صغير وأطفال يلعبون في فناء المنزل ،إلى كوابيس مرعبة من الخوف على حياتهم وحياة عائلاتهم من القتل في أي لحظة وبلا سبب ، حتى أقل الهموم عبئا وأكثرها مأساة، إنها علاج الأولاد المصابين والمرضى وتأمين الغذاء والدواء لهم ، ولكن في زمن حقوق الإنسان الأوروبي والأمريكي والأشقر والأحمر والأسمر، وأعضاء لجنة الرباعية والجامعة العربية وزمن الجيوش العربية الجرارة التي لا تطلق النار إلا على بعضها ، وزمن نتنياهو الرديء ودولته العنصرية ، لم يعد تحول قطاع غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم شيئا يذكر إنهم نسيّ منسي، ولم يعد من الأهمية السؤال عن مواعيد فتح المعابر المصرية والإسرائيلية ما دام الحكم قد صدر على مليون ونصف المليون غزّي بالموت صبرا ، فمن لا يموت بالقصف الإسرائيلي ، سيموت بقرار من سيادة الجانب الشقيق لإغلاق المعبر .. الله أكبر .