13 سبتمبر 2025
تسجيلفي طريق عودتي من المسجد لمحت مشهداً لفتيةٍ يلعبون كرة القدم في أرض فضاء، ولا أدري ما الذي استوقفني وشدني لمشاهدتهم، هل هي ذكريات الطفولة أم شيء آخر؟، بدا بعضهم وكأنه يرتدي فانلة ناديه المفضل، والبعض الآخر رقم لاعبه المحبوب، وقد اتخذوا من بعض أحذيتهم علامات لتحديد الهدف تمامًا كما كنا نفعل من قبل. لقد جال فكري في أيامٍ خلت واستحضرت نفس المشهد من نصف قرن تقريباً، كان الفرق بين المشهدين هو غياب الفتيات الصغيرات اللاتي كن يلعبن، ليس ببعيدٍ عنا، لعبة القفز على الحبل، تلك اللعبة المشهورة عندنا في الخليج، والتي اندثرت مع اندثار العديد من الرياضات والألعاب الشعبية التي تعتمد على الجهد البدني، ومن ثم بدت مظاهر السمنة وتحدياتها تبرز في المجتمع. أذكر أننا لم نكن نهتم بتسجيل الأهداف كفريق واحد بقدر ما كان الواحد منا يهتم بالاستحواذ على الكرة باستمرار، والحرص على أن يكون هو من يسجل الهدف، لذا لم نعرف طعم اللعب الجماعي ولا قيمة مشاركة النجاح، ومع أن الهدف كان متواضعاً وسهل المنال إلا أنه كان يصعب علينا تسجيله، لقد كانت نظرتنا قاصرة ولا تتعدى جواربنا، إذا صح التعبير، هل لأن الهدف مصنوع من الأحذية؟، أم لأن أنفسنا لم تقبل أن تتنازل عن الأنا؟ وأنا غارقٌ في استذكار تلك المشاهد، يتوقف اللعب فجأةً إثر شجار بين الفتية، ثم بدأوا يتنازعون الكرة وإذا بأحدهم يأخذها عنوة ويغادر المكان، نفس المشهد القديم يتكرر، كنا نتشاجر لأتفه الأسباب رغم البداية الجميلة والأهداف الواضحة المحسوسة، ليعلن صاحب الكرة انتهاء اللعب قبل الأوان، بينما تبقى الفتيات يواصلن اللعب بسلام وسعادة رغم عدم وجود هدف حسي عدا الاستمتاع لبعض الوقت، ذلك الهدف المتغلغل في وجدانهن قادهن بالفطرة إلى السعادة. لقد تعلمت من ذلك الموقف البسيط أن الأهداف التي نتبناها في الحياة قد لا تعكس حقيقة ما نضمره، ولا تعبر بالضرورة عن تطلعاتنا وطموحاتنا الحقيقية، وكما ينطبق ذلك على الأفراد، فهو ينطبق أيضًا على المؤسسات التي تتبنى أهدافًا وخططًا إستراتيجية ومؤشرات أداء فقط لتضفي شرعية على وجودها وأهميتها وهي في الحقيقة صورة من صور الإفلاس الوجودي، ومحاولة لكسب الوقت من أجل تحقيق مصالح ضيقة كما يفعل الطفل الذي يحاول الاستحواذ على الكرة أكثر وقت ممكن. إذا لم تكن الأهداف مدروسة وواقعية ويحترمها الجميع ويسعون لتحقيقها، فتأكد أن النتائج لن تتجاوز الأحذية، وفي تلك الحالة تكون الأهداف والخطط المعلنة مجرد شماعة نبرر بها قراراتنا ونزين بها مظهرنا، وتبقى المؤسسات التي تؤمن وتحترم أهدافها السامية، حتى لو لم تكن مكتوبة، أفضل أداءً واكثر متعةً. أكملتُ طريقي إلى منزلي وقد تعلمت من ذلك المشهد المعتاد درساً لا ينسى ومبدأً من مبادئ الإدارة الحديثة، ولا يزال المشهد يختزل الكثير من العبر تركتها لمخيلة القارئ.