13 أكتوبر 2025
تسجيلينقسم العرب حين يتحدثون عن المستشرقين عادةً ثلاثة أقسام: قسم واضح في عداوته للمستشرقين والحط من قدرهم والإزراء بما أنتجوا من مؤلفات تتصل بتراث المسلمين. وقسم ثانٍ فخور بهم يثني خيراً على ما أسدَوه من خدمات، ويدافع عنهم بحماسة واضحة. وقسم ثالث يصطنع لنفسه الموضوعية والحياد. فهو معهم ما أحسنوا، وهو ضدهم إذا بدا له منهم ما يريبه.ولست أشك في أن أسباب كل موقف من هذه المواقف الثلاثة أسبابٌ انفعالية عاطفية، حتى الفريق الثالث الذي يريد أن يوحي لنا بأنه متعقل يزن الأمور بميزان العدل والحيدة، ليس في نظرنا سوى إنسان يريد أن يحاكم إنتاج الآخرين على حسب ما يراه هو صواباً أو خطأً. ثم إن هذا الفريق الثالث يمثل في رأينا نوعاً من التميع والضبابية ورمادية الرؤية، وإمعية الفكر. وإنما الموقف الصحيح في رأينا أن يكون للمسلم موقف صارم حازم حاسم واضح: إما معهم أو عليهم. أن نقبل كل ما يكتبون، أو نشك في كل ما يكتبون، ونعلوه بمعاول النقد العلمي الصريح الذي لا مداراة فيه.وممن دافعوا عن المستشرقين بحماسة، وإذا أشاروا إلى تعصبهم أشاروا إشارة هينة لينة، المؤرخ الراحل الدكتور حسين مؤنس، وفيما يلي نقتبس فقرة تعكس النموذج الذي يمثله موقفه من المستشرقين، يقول د. حسين مؤنس، في مجلة العربي الكويتية، العدد 66، مايو 1964، فمنذ زمن بعيد ونفر ممن لا يقرأون الكتب الغربية في لغاتها يصرون على أن كل ما كتبه المستشرقون عنا تحامل وعصبية، حتى ثبت في أذهان بعض قرائهم أن كل مستشرق عدو. ويستدرك عليهم فيقول:"وهذه فكرة خاطئة، فإن الكثيرين جداً من المستشرقين منصفون، وقد قالوا الحق كما تصوروه. حقيقة هناك ناس متحاملون من أمثال لويس استبرنجر، وهنري لامانس Henri Lammans والأب زويمر Zweimer ومن إليهم، ولكن إلى جانب هؤلاء هناك علماء أجلاء لا يستطيع الإنسان إلا تقديرهم واحترامهم، وإذا وجد المسلم في كتاباتهم ما لا يرضيه فليس من الضروري أن يكون ذلك صادراً عن سوء نية، بل هذا هو الحق كما رأوه، وما دام قد صدروا فيما يكتبون عن إخلاص، فنحن نحترم رأيهم وإن لم يرضنا".فانظر إلى الدكتور مؤنس كيف يهون من شأن مغالطاتهم ويصفها بأنها (قد لا ترضينا) ثم يستأنف إشادته بهم فيقول:"ولا ننسى كذلك أن أولئك المستشرقين خدموا لغتنا وعلومنا خدمات جليلة، ويكفي أننا تعلمنا منهم تحقيق النصوص ونشرها، وطريقة البحث العلمي الصحيح على أساس من النصوص، ومهما كان في آرائهم مما لا يرضينا فهي آراء لا تنقص من قيمة الخدمة التي قاموا ويقومون بها".وإذا أمعنّا في البحث عن رأي الدكتور مؤنس في كارل بروكلمان شخصياً بوصفه واحداً من أهم المستشرقين الذين لقيَت أعمالهم رواجاً عظيماً بين المثقفين العرب على اختلاف مشاربهم، وجدنا له مقالاً كاملاً اختص به كارل بروكلمان ونشره في مجلة العربي الكويتية أيضاً (العدد 139 الصادر في يونيو 1970) وقد قدم لهذا المقال على مدى صفحتين، موجِزاً رؤيته التي أشرنا إليها من المستشرقين بعامة. ثم انتقل إلى الحديث عن بروكلمان وموقعه بين المستشرقين فقال:"وفي مقدمة أولئك الأفذاذ الذين قدموا للدراسات العربية في العالم أجل الخدمات كارل بروكلمان Carl Brocklman الذي أكمل سلسلة معاجم أسماء الكتب والمؤلفين العرب وتراجم حياتهم، وأهم مؤلفاتهم. لقد اشترك في كتابة هذه السلسلة أعلام من أمثال ابن خلكان وياقوت الحموي وابن النديم وحاجي خليفة، ثم جاء هذا الألماني الفريد فأربى على كل ما فعله غيره، فإن أولئك الذين ذكرناهم آنفاً كتبوا عن أهم "المؤلفين والمؤلفات"، فجاء بروكلمان وكتب عن "كل" المؤلفين والمؤلفات، أي إنه عمد إلى الاستيفاء والشمول، وهذا هو المطلب العسير، لأنك إذا قلت إنك ستذكر "أهم" المؤلفين فتحت لنفسك باباً واسعاً للاعتذار عن النسيان وتبرير السهو، أما إذا قلت "كل" المؤلفين فقد ألزمت نفسك بالإحصاء الشامل، وأقفلت على نفسك باب الاعتذار والتبرير".وبعد أن لخص الدكتور مؤنس لقارئه حياة بروكلمان انتقل للحديث عن كتابه الخطير "تاريخ الآداب العربية" فأوسعه إشادة وتقريظاً وحمداً ومدحاً. ولم يبد أية ملاحظة تغض من قدر الكتاب، على رغم ما فيه من مطاعن اتضحت فيما بعد للدارسين المنصفين.