16 سبتمبر 2025

تسجيل

نجيب محفوظ .. والثورة

04 نوفمبر 2013

يعتبر عام 2011 هو المتمم لمئوية أديب نوبل العظيم نجيب محفوظ وكان من المقرر أن تكون هناك احتفاليه كل شهر على مدار العام وفق ما أعلنه المجلس الأعلى للثقافة .. ولكن يشاء المولى عز وجل قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير فى مطلع ذلك العام الأمر الذى حال دون تحقيق هذه الإحتفاليات حيث احتلت الثورة مكان الصدارة فى الشأن العام بل والخاص كذلك .. ولكننا نلمس – بعد أن هدأت الأمور – رغبة لدى المؤسسات العامة والخاصة وكذلك الأفراد المهتمين بالشأن الثقافى رغبة فى الإحتفاء الدائم بأديب نوبل .. وهذه مشاركة متواضعة منا فى هذا الصدد .ولأن نجيب محفوظ – كما أجمع النقاد – هو خير من قام بتشريح المجتمع .. هذه واحده .. أما الثانيه فهو ما نلمسه ونشاهده هذه الأيام من العديد من الطوائف والكثير من الأشخاص فى ركوب موجة الثورة .. حيث باتت هى الجواد الرابح .. وتحول الجميع إلى ثوار .وأعلن أكثر من نصف سكان مصر أنهم كانوا من المبشرين بالثورة .. وهذا القول ينطبق على الكثير من الأدباء والفنانين والمفكرين والمثقفين .. وأنا أقول لهم "لا .. لا يا ساده .. بل هو نجيب محفوظ من تنبأ بالثورة " .ولابد أن يتسأل البعض : كيف وقد مات الرجل ؟ وهنا أحيلهم إلى الجزء الأخير من الحكاية العاشرة من رائعة أديب نوبل " ملحمة الحرافيش " .. كيف ؟كل من قرأ هذه الملحمة الشهيرة يعرف أنها تدور فى الحارة المصرية التى هى تجسيد للمجتمع المصرى كله .. حيث ساد منطق القوة فى تلك الفترة .. ووجدنا من يملك القوة هو الذى يسود ويحكم ويتحكم .. والقوة هنا تعنى فقط القوة الجسدية بمفهوم ذلك الزمان .. ومن هنا كان الفتوة الذى يهزم الآخرين ويتغلب عليهم هو الذى يسود ويحكم ويفرض الإتاوات على المقتدرين وأصحاب الثروات والأعيان .. بل وقد يتزوج من واحدة أو أكثر من تلك الطبقة أو غيرها طبقا لمشيئتة وبمعاونة عصابته الذين يغدق عليهم الأموال ويمنحهم بعضا من سطوته طبقا لما يراه .. أو لمجريات الأمور .. هذه الحاشية أو العصابة تجدها حول كل حاكم أو ذى سلطان ..وهؤلاء بدورهم يدعمونه وينافقونه طالما هو يملك السلطة والقوة ولكنهم سرعان ما ينفضون من حوله ويتحلقون حول القادم الجديد إذا فقد زعيمهم قوته أو تغلب عليه فتوة جديد .. أليس هذا ما يحدث فى كل الأزمنة وسائر الأماكن بشكل أو بآخر .طبقة أخرى رصدها محفوظ .. وهى طبقة الأعيان .. تلك التى لا تملك القوة الجسدية ولكنها تملك المال فتشترى به سلامتها أو تستعين به – باختصار – للوصول إلى القوة .وهنا نلاحظ أن من يملك القوة يتطلع إلى المال .. ومن يملك المال يريد أن يكون به قويا .. أليس هذا هو الإنسان ؟ أما الطبقة الثالثة فهى تلك التى لا تملك قوة جسدية .. وليس لديها مال .. تلك الطبقة المطحونة المسحوقة وهم الأكثرية أو من أطلق عليهم محفوظ " الحرافيش " .. فماذا عن حرافيش محفوظ ؟ دعونا نبحر معا فى " ملحمة الحرافيش " وبالتحديد الجزء الأخير من الحكاية العاشرة كما أسلفنا .بطل هذه الملحمة هو الجد الأكبر عاشور الناجى والذى اكتسب لقبه لأنه هاجر الى الصحراء مع زوجته وطفله هربا من الطاعون وكان ذلك لسبب غير معلوم .. هل هو إلهام من الله أو الحاسة السادسة .. المهم أنه نجا واكتسب لقب الناجى وعاد بعد زوال الغمة وأصبح الفتوة واستقرت له الأحوال وإن كان قد تطلع إلى حياة الأغنياء وعاش فى منزل أحدهم من الذين لم يكتب لهم الاستمرار فى الحياة .. ولأنه يمتلك جسدا قويا وقدرة على سحق من ينازله فقد استمر هو الفتوة وورث عنه ابنه الفتونة برغم ما شابه من جنون ولكن ليس هذا شأننا الآن .. المهم أن من يتابع الملحمة التى هى تأريخ لهذه العائلة يجد أن التوريث استمر حتى جاء من لم يكن قويا بما فيه الكفاية ففقد الفتونة بسبب الدعة واستمراء الحياة الناعمة .. وهنا انفض الجميع من حوله وتجمعوا حول من وجدوا مصلحتهم فى التحلق حوله .. نستثنى من ذلك قلة قليلة جدا تعاطفت معه سرا ولم يكن أحدهم يجرؤ على إظهار تلك المشاعر .. وعاد صاحبنا الى حياة البسطاء والفقراء .. وأصبح حرفوشا .. لا يستطيع أن يرد الضرب وكان عليه أن يبتلع الإهانة حتى لا يقتل ويتركونه يعيش وعليه أن يمتهن مهنة جده الأكبر الذى كان فى الأصل عربجيا .. هذه هى الحياة وعلى من يريد الاستمرار فيها القبول بشروط اللعبة والامتثال لقوانينها .. البقاء والسيادة للأقوى .فماذا عن عاشور الحفيد بطل الجزء الأخير من الحكاية العاشرة والذى غادر مهزوما جريح الكرامة .. عاد عاشور ذات يوم شتوى وكان كما جاء فى الرواية يسير بهدوء وثقة .. واتجه إلى المقهى حيث يتواجد حسونه السبع الفتوة وأعوانه .. ومعهم بالضرورة يونس السايس شيخ الحارة – المعين من الحكومة – والشيخ جليل العالم شيخ الزاوية .. نلاحظ هنا قدرة نجيب محفوظ على انتقاء الأسماء وتوظيفها ولكننا سنتعرض لذلك فى مقام آخر .. نعود إلى عاشور .لم يرد أحد عليه السلام بل ظهرت آيات الدهشة وعلامات الاستنكار على وجوه الجالسين .. ولكنه مضى إلى مقعد بلا مبالاه وجلس .سرعان ما توقع الناس أحداثا ولم يطق السبع صبرا فسأله بخشونة ماذا أرجعك يا ولد ؟فأجاب بهدوء :لابد يوما أن يعود الإنسان لحارته .فصاح به :ولكنك طردت منها منبوذا ملعونا .فقال عاشور بهدوئه المطمئن :كان ظلما ولابد للظلم من نهاية .فتدخل الشيخ جليل قائلا :تقدم إلى فتوتنا واسأله العفو .فقال عاشور ببرود :لم أجئ لطلب العفو .فهتف يونس السايس :ما عرفناك مغرورا ولا وقحا .فقال بسخرية :بالصدق نطقت .عند ذاك نتر حسونه السبع ساقيه المتشابكتين نحو الأرض وسأله منذرا :علام تعتمد فى رجوعك إن لم يكن على عفوى .فقال بصوت جهورى :اعتمادى على الله جل شأنه .فصاح السبع :اذهب على قدميك وإلا ذهبت على نقالة .فوقف عاشور وشد على نبوته .. اندفع صبى القهوة خارجا مناديا رجال العصابة .. هرع الآخرون إلى الحارة خوفا .. انقض السبع بنبوته وانقض عاشور بنبوته .وتمضى الأحداث حول كيف دارت معركة حامية الوطيس خاصة بعد دخول أفراد العصابة .. حتى كانت المفاجأة .ونقرأ من الرواية ..وإذا بمفاجأة تدهم الحارة كزلزال ، مفاجأة لم يتوقعها أحد ، تدفق الحرافيش من الخرابات والأزقة ، صائحين ملوحين بما صادفته أيديهم من طوب وأخشاب ومقاعد وعصي ، تدفقوا كسيل فاجتاحوا رجال السبع الذين أخذوا ، وبسرعة انقلبوا من الهجوم إلى الدفاع وأصاب عاشور ساعد السبع فأفلت منه النبوت ، عند ذاك هجم عليه وطوقه بذراعيه ، عصره حتى طقطق عظامه ثم رفعه إلى ما فوق رأسه ورمى به فى الحارة فتهاوى فاقد الوعى والكرامة .أحاط الحرافيش بالعصابة ، انهالوا عليهم ضربا بالعصي والطوب فكان السعيد من هرب وفيما دون الساعة لم يبق فى الحارة إلا جموع الحرافيش وعاشور .ونمضى فى القراءة حتى نصل إلى قول شيخ الحارة لعاشور :أود أن أذكرك أنك انتصرت بهم ولكنك غدا ستقع تحت رحمتهم .لن يقع أحد تحت رحمة أحد .قالها عاشور بثقة .فقال الشيخ جليل العالم بإشفاق :لم يكبحهم فى الماضى إلا التفرق والضعف .إنى أعرفهم خيرا منك ، عاشرتهم فى الخلاء طويلا ، والعدل خير دواء .دعونا نتوقف هنا قليلا .. من العبارة السابقة نرى أنه كان هناك تنسيق بين عاشور والحرافيش " ضرورة التواصل " هذا أولا وأيضا أن الحرافيش كانوا بحاجة إلى من يوحدهم ، ووجدوا ضالتهم فى عاشور .. ثانيا : " ضرورة وجود قيادة واعية " أما ثالث الدروس فهو أن الضعفاء إذا توحدوا أصبحوا قوة لا يستهان بها على عكس ضعفهم حال التفرق .وهكذا ترى عزيزى القارئ رسائل محفوظ للمجتمع .. والأعظم من ذلك هو رسائله إلى الثوار التى يرسلها لهم حتى بعد وفاته .هكذا كان نجيب محفوظ رائعا فى كتاباته .. فى حياته وبعد وفاته ..أدعو كل من يريد أن يفهم .. ومن يحب بلده أينما كانت أن يستفيد من دروس محفوظ وعليه أن يعيد قراءة السطور السابقة .وإلى لقاء جديد وموضوع جديد بحول الله .