20 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ أن توقف تلفزيون البي بي سي العربي عام 1996، لتحلّ محلّه قناة الجزيرة الفضائية، ويبدأ موسم الهجرة الإعلامية إلى الجنوب بدل الشمال، كما اعتدنا لعقود، بدا وكأن شمس لندن الإعلامية قد بدأت بالغروب، وأن المسألة مسألة وقت فقط، تعزز ذلك بنقل عدد من الوسائل الإعلامية العربية مراكزها الرئيسية إلى عواصمها بدلاً من لندن، ووصل الأمر إلى أن أغلقت بعض هذه الوسائل الإعلامية أبوابها بالكامل، ليجد موظفوها أنفسهم فجأة عاطلين عن العمل. مناسبة الحديث هو إغلاق إذاعة لندن القسم العربي مع عدد من الخدمات الأجنبية أبوابها فجأة، واللافت أن يكون غياب لندن هنا متزامناً مع غياب الملكة عن باكنغهام لسبعين عاماً. الخدمة العربية التي انطلقت عام 1938، وذلك لحشد الرأي العام العربي في الحرب العالمية الثانية في مواجهة الدعاية النازية، التي كان لها ذراعٌ إعلاميٌّ سابقٌ على ظهور البي بي سي العربية، بعنوان هنا ألمانيا، لكن من الصعب أن نهضم سبب الإغلاق المعلن وهو الضائقة المالية، وكل ميزانية الإذاعة السنوية لا تتجاوز الثمانية والعشرين مليون جنيه إسترليني، بينما ميزانية الهيئة بالكامل تصل إلى خمسة مليارات من الجنيهات الإسترلينية، وهو ما يدفع أي محلل أو خبير مختص للتفكير في سبب آخر، فغالباً ما تكون التصريحات عبارة عن قنابل دخانية تُخفي الحقيقة، فكيف إن كان من يطلق هذه القنابل الدخانية أصحاب المصلحة والمهنة أنفسهم؟! دون شك، فقد تراجع أداء إذاعة بي بي سي العربية عن سابق عهدها، وبغض النظر عن أسبابه فيما إذا كان نتيجة تفشي فطر الإذاعات والقنوات الفضائية المنافسة، أو غيره، لكن ربما يعتقد بعضهم أن المستمع بدأ يفضل متابعة الشأن المحلي ويستغرق فيه، لأن الثورات العربية ربما جعلت المشاهد والمتابع يلجأ للوسائل المحلية أكثر من الوسائل الدولية، نظراً لأن ذلك يمس شؤون حياته كلها وعلى مدار الساعة، ويذهب بعضهم إلى أن تراجع الأداء يعود إلى الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها بي بي سي، حين انحازت سياستها التحريرية ضد الربيع العربي، مما أدى إلى تآكل شعبيتها في أعين الشريحة الأوسع، فانعكس ذلك على انفضاض الجمهور عنها. بوصفي إعلاميًا، لا أذكر شخصياً آخر مرة شاهدت أو استمعت أو عرفت بخبر عاجل وخاص وحصري من بي بي سي العربية، ومثل هذه المناسبات هي في العادة التي تمنح المصداقية لأي مؤسسة إعلامية، وترسخ اسمها وماركتها في أذهان المشاهدين، لكن كعادة الشركات الضخمة والمؤسسات الكبيرة والدول الأكبر تتخذ قراراتها ببيروقراطية معقدة، وربما مثل هذه البيروقراطية تحدُّ من الإبداع الإعلامي تحديداً، وتحدُّ معه من سرعة التعامل مع الخبر الذي يحتاجه الإعلام بشكل عام، فكيف ونحن في عصر السرعة، وعصر من لدى بعض المنصات أكثر من مراسل في البيت الواحد، كالتويتر والفيس بوك والانستغرام وغيرها من المنصات. إذن ودّعت بي بي سي العربية على ما يبدو المونديال الإعلامي، نتيجة هامشية التأثير والنفوذ، إن لم نقل قد ودّعته إلى الأبد، والتذرع بالانتقال إلى المنصات الرقمية باعتقادي لن يعوّضها ما خسرته، فما تزال المنصات الرقمية هي للإعلامي الشخصي، ينعكس ذلك بتفاعل المتابعين والقراء مع الحسابات الشخصية أكثر من التفاعل مع الوسائل الإعلامية، وما تزال سايكولوجية المشاهد والمتابع، تحكمها قاعدة أن المنصات الرقمية لا يمكن أن تكون منصة إعلامية مستقلة بذاتها، وإنما هي حامل لمنصة أخرى، ووسيلة أخرى، بمعنى إن لم يكن للإذاعة والمحطة مكانٌ تبث منه، فلا قيمة إعلامية لها، أما المنصة الرقمية فبحسب سايكولوجية المشاهد، هي أداة من أدوات الترويج والنشر، وإلاّ فلم يعد هناك فرق بين ما يفعله المواطن الصحفي، وبين المؤسسة الصحفية، ما دام الطرفان يستخدمان المنصات نفسها، بلا إبداع يُفرّق بينهما.