13 سبتمبر 2025
تسجيلأفرزَ حصارُ الشعب القطري من قبل "الأشقاء" مجموعة من المفاهيم الغريبة على المجتمع القطري أو الخليجي عامة، ومنها التغني بالقبيلة وجعلها فوق مفهوم الوطن. ووصل الأمر بالبعض إلى وَسم الوطن بأنه قبيلة !؟ وهذا يتنافى مع كينونة الوطن، كونه الحاضن لجميع المواطنين، مهما اختلفت أصولهم وأسماؤهم! فالوطن هو المكان والكيان الذي يرتبط به المواطنون تاريخياً، وهو الذي يُشكل الهوية الوطنية، وهو الحاضن لآمال وتطلعات المواطنين والملاذ الآمن لهم. ولقد ورد في خطاب صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في الاجتماع الأول للجنة إعداد الدستور الدائم في 13/7/1999، " إن دستورنا الدائم يجب أن يُبنى على واقع انتمائنا الخليجي والعربي والإسلامي، وعلى تقاليدنا العربية الأصيلة، ومبادئ ديننا الحنيف، مُحققاً لأهدافنا الاستراتيجية"وتلك ركيزة أساسية تقوم عليها مؤسسات الوطن دون أية محاولة لتشطير المجتمع، أو بث أفكار طارئة تتنافى مع قيم الدولة الحديثة، حتّمتها ظروف سياسية طارئة!؟ كما نصّت المادة (20) من الباب الثاني من الدستور على " تعمل الدولة على توطيد روح الوحدة الوطنية، والتضامن والإخاء بين كافة المواطنين". والذي يتأمل هذه المادة يدرك جيداً أن الدولة قد بيّنت المبادئ الأساسية التي يقوم عليها المجتمع القطري، ومنها الوحدة الوطنية، التي لا يجوز " تفصيلها" على فصيل معين أو ربطها بظروف سياسية أو اجتماعية محددة، ولا يجوز لبعض الذين لا يدركون مفهوم الوطن والوطنية أن يكتبوا في وسائل التواصل الاجتماعي كلمات لا يدركون مقاصدها، أو أنهم يدركون ذلك، لكنهم يهدفون إلى تفتيت الوحدة الوطنية – التي وردت في الدستور – تبعاً لمقاصد خارجية بعيدة عن روح المجتمع المدني وقاموس حق المواطنة وسمو الوطن.إن الوطن فوق كل اعتبار، ولئن حتّمت ظروفٌ معينة – خلال حصار الشعب القطري- مفاهيم ضيقة جداً لارتباط الإنسان بالوطن، عن جهل وقلة بصيرة، ولربما " اندفاع" نحو التعبير عن مُناصرة القبيلة في الخارج، في مشهد يكاد يكون جلياً، فذلك يضرُّ بالوطن، ويستغل الظروف الطارئة لخلق نوع من " البلبلة" والحراك غير الصحي لضرب الوحدة الوطنية، والشروع في مناصرة القبيلة ارتكازاً على وجود جذور لها في بعض دول الحصار، في تجاهل تام لحقوق الوطن، فإن ذلك مظهر من مظاهر خيانة الوطن، والتخلي عن شروط المواطنة التي نصت عليها القوانين، ولعل أهمها المادة رقم (35) من الدستور، والتي تقول:" الناس متساوون أمام القانون، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين". وهذه إشارة واضحة لنبذ كل تصرّف شاذ يضرب الوحدة الوطنية، ويشجّع على تشطير المجتمع وتصنيف المواطنين. كما أن بروز هذه " النغمة" هذه الأيام بالذات، ظاهرة غير صحية، وتتعارض مع جهود الدولة في الحفاظ على الوحدة الوطنية، كما أنها تفتح أبواباَ نُريدها مغلقة، مع تطاول إعلام دول الحصار علينا وعلى رموزنا واستقرار الأمن في بلادنا. ولقد شاهدنا في ذاك الإعلام صوراً (تحرِّض على القبلية)، تم استغلالها من أجل النَيْل من دولة قطر، وضرب حالة الأمن والاستقرار فيها، عندما لجأ لتلك الدول بعضُ غير المؤمنين بالوحدة الوطنية، والمتكئين على عنصر العصبية وموروثات التاريخ، ممن يرفض فكرُهم مقارباتِ العصرَ الحديث ومكونات المجتمع المدني. كما أن المواطنة تعني الانتماء، وهي علاقة تقوم بين الفرد والهيكل السياسي حيث يقدِّم المواطن الفرد الولاء، ويتعهد الهيكلُ السياسي بتوفير الحماية عبر قانون واضح يرتضيه الطرفان. لذا، فإن المحك الرئيسي للعلاقة بين الفرد والوطن يتشكل في الولاء للشرعية، ولا يجوز الخروج عليها لاعتبارات قبلية أو وجود ظرف طارئ حتّم انشطار بعض العائلات في المنطقة، فظهرت البياناتُ والبياناتُ المضادة من بعض رؤساء القبائل، كما تمت الاستقبالات "الاستقطابية" في بعض دول الحصار، من أجل بث رسائل سياسية تضرب الوحدة الوطنية في بلادنا.كما أن ضعف المواطنة يسبب ازدواجية المواقف، وهذا ما أدى إلى ظهور بعض المواقف خلال الحصار التي تتنافى مع مبادئ المواطنة ومعايير الولاء للوطن، وهذا أمر لا بد من مواجهته ، نظراً للتبعات المترتبة عليه في المستقبل.نقول لا يجوز- ونحن نعيش عصر الدولة الحديثة في قطر، ووطننا يعبُر مُنعطفاً خطيراً في علاقاته مع " الأشقاء" ضمن حصار جائر وغير مُبرر- أن يخرج علينا من يتغنى بعنصرية " جاهلية" – حاربها الإسلام منذ 15 قرناً – لا تناسب العصر، ويقدّم القبيلة على الوطن. وأعتقد بأن الأمر يحتاج إلى قرار حاسم لمنع استمرار هذه " النغمة" النشاز في تاريخ وطننا العزيز الذين نَدين له بالحب والولاء؛ وفي النسيج الاجتماعي الواحد الذي عاشه وطننا منذ تأسيس الدولة.إن الوطن لا يرتبط باسم ولا بتاريخ ولا بحتميات اجتماعية وعائلية، إنه واقع جغرافي يتماهى مع روح المواطن، وتتجسد فيه المواطنة على أكمل وجه. وهو الكيان الذي يحمي المواطن وينظِّم حياته ويرسم علاقاته مع غيره من المواطنين والمقيمين حسب القانون. والوطن هو المكان الذي عشنا فيه ذكريات الطفولة، وعايشنا فيه مراحل التطور والنماء، ولمَسنا فيه الأمن والرخاء، وتماهينا مع أغنياته ومسرحياته وكتبه وأناشيده الوطنية! وهو الكيان الذي نحلم فيه كل مساء، ونجتهد كل صباح من أجل المساهمة في تطويره وزيادة الإنتاجية في مرافقه. والذين لا يؤمنون بهذه القيم الوطنية لا يحتاجهم الوطن، لا وقت الشدة ولا وقت الرخاء. حبنا لهذا الوطن لا يحتاج لتوجيه أو إعلان، لأنه ينبع من القلب، ويتشكل مع الضمير! لذا، فإن الانتماء ليس بالضرورة يعني بعض الأوراق الثبوتية، بل إنه إيمان داخلي عبر القلب والضمير، وهو سعي نحو تأمين الوحدة الوطنية ودرء كل دعاوى الفرقة أو التخندق خلف " ماروائيات" تاريخية تجاوزها الزمن. وحريٌ بكل المواطنين المخلصين أن يتذكروا كلمة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد أل ثاني أمير البلاد المفدى من على منبر الأمم المتحدة عندما أبدى اعتزازه بشعبه والمقيمين على أرض قطر؛ حيث تجلى ذاك الاعتزاز المُقدَّر بقوله:" واسمحوا لي في هذه المناسبة ومن على هذه المنصة أن أعبّر عن اعتزازي بشعبي القطري ومعه المقيمون على أرض قطر من مختلف الجنسيات والثقافات. لقد صمد هذا الشعب في ظروف الحصار، ورفضَ الإملاءات بعزة وكبرياء، وأصرّ على استقلالية قرار قطر السيادي، وعزز وحدته وتضامنه، وحافظ على رفعة أخلاقه ورقيه رغم شراسة الحملة الموجهة ضده وضد بلده".إن هذا الكلام يرسم جوهر العلاقة بين القيادة السياسية والمواطنين والمقيمين، ويحمل بين طياته رفضاً لكل الدعوات التي تهدف إلى تفتيت الوحدة الوطنية، أو قبول الإملاءات التي تفرضها دول الحصار، ومنها الدعوة للتمسك بالقبلية أو اختصار الوطن الأعَزّ في شكل من أشكال موروثات التاريخ التي يحاربها المنطق ولا تُقرها لا الأديان السماوية ولا المواثيق الدولية، ولا الأخلاق.لذا، فإن الولاء – بمعناه الأشمل – للوطن أولاً وأخيراً؛ وأمام هذا المعيار تسقط كل "دعاوى" العنصرية أو الانتمائية أو ترهات التاريخ.