18 سبتمبر 2025
تسجيلأيقظوني اليوم باكرا، علىَ أن أحفر قبراً لشخصية قالوا عنها إنها مهمة، لا قيمة للأهمية عندي فوظيفتي تتسم بالعدالة مع جميع الزبائن، جميع الزبائن عندي على قدم واحدة من المساواة، الفرق فقط في الاسم، لكن إجراءاتي واحدة تبدأ، بالحفر وتنتهي بإهالة التراب على الميت في الحفرة التي حفرتها. أذكر قبراً حفرته لأحد المتوفين لم يصاحبه من المشيعين سوى ثلاثة أشخاص أو أربعة، لكنه كان من أسهل القبور حفراً وكأن الأرض تحتفي بمقدمه، يأتي لزيارته بين حين وآخر شخص واحد يقف طويلاً أمامه ثم يذهب، بعد أن يسلم عليَّ ويمد يده لي ببعض النقود. في إحدى المرات سألته عن المتوفي قال: هو والدي، أنا ابنه الوحيد، سألته هل كان معدما قال لا، لقد كان صاحب منصب كبير وكان حوله رجال كثر، لكن ضميره اصطدم مع كثير من متطلبات منصبه، حيث كان على ثغر من ثغور المال العام، فترك المنصب انتصاراً لضميره وآثر الابتعاد حتى نسيه المجتمع السريع الخطى، وتوفي فجأة قبل أن يسعفني الوقت لتنشيط ذاكرة الناس حتى تتذكره. نظراً لطول فترة عملي كحفار للقبور، أصبح لدىَ معيار خاص بي كمعايير البشر في الحكم على الأشياء انطلاقاً من ما يظهر لهم ويبين أمام أعينهم، فهناك من أشعر بسهولة كبيرة في حفر قبره، وآخر يستغرقني كثير من الوقت والإرهاق حتى أكمل عملية الحفر. يقفز إلى ذاكرتي، ثقافة مجتمعي التي ذكرت، فينساب صوت في داخلي قائلا: هذا حسابه سهل، وآخر حسابه أصعب. ذهبت إلى المقبرة وبدأت في حفر القبر للشخصية المهمة، بعد أن جاء من يحدد لي مكان القبر بالذات، مجموعات كثيرة من الناس بدأت تصل إلى المقبرة قبل وصول جثمان الميت ظلت خارج المقبرة تنتظر وصوله، جاءت به سيارة إسعاف، تسابق الجميع على حمله، بعد اكتمال الحفر بدأنا في الدفن، ومن ثم الدعاء له كالعادة، ثم بدأ الجمع في تقديم العزاء لذويه بشكل عشوائي داسوا على القبور وتزاحموا على أحد أبنائه الذي كان أحدهم وزيراً والآخر رجل أعمال بارز، بشكل أساء لحرمة الأموات. لمحت مجموعة تقف بعيدة وتفترش حول شيء ما، ذهبت لاستطلع الأمر وجدتهم يفترشون رسماً مساحياً كبيراً لمجموعة كبيرة من الأراضي المقسمة للبيع، ويتداولون الأسعار فيما بينهم،عرفت «الدلال» السمسار الذي كنت دائما أجده حاضراً عند وفاة بعض الشخصيات التي يطلقون عليها صفة «هامة». جميع المشيعين إما ذهبوا حالاً مع أبناء الميت أو انضموا إلى حلقة الدلال التي تأخرت بعد ذلك وقتاً ليس باليسير إلا أنهم انقلبوا إلى أهليهم فكهين بعد ذلك. من يتعامل مع الموت دائماً ومباشرةً، يستطيع أن يضع مساحة بينه وبين الدنيا بحيث لا تفترسه، رغم صعوبة المهنة وعدم تقبلها اجتماعياً والنفور منها عندما أدخل المجالس لا يُرحب بي، بل ربما يتشاءم البعض من رؤيتي. أعلم أن مهنتي في طريقها إلى الزوال والانتهاء اليوم بعد اعتماد الحفر والدفن آلياً، لكن ما يشغلني هو تاريخ مهنتي هل سيشفع لي وأجد من يشيعني ويضعني في قبر إلى جانب مئات القبور التي حفرتها، وهل سينفض السامر بأسرع ما يكون الانفضاض، حيث لا دنيا ورائي تركتها، ولا حتى تركتم في غفلة من تذكر المصير المحتوم. [email protected]