14 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما تضيعُ المِهنيّة

04 يوليو 2018

في كل عمل إبداعي، يتطلب الأمر التخصُصَ لا التجريب في المتلقي! ففي المسرح، هنالك مُحددات وقوانين لا يجوز تجاوزها، حتى لو حاول أحدهم الاقتراب من "العبثية" وإلغاء محددات المسرح، وتجاهلِ مفاهيمه، التي وضعها كبار المسرحيين العالميين، وظلت حتى اليوم مرتكزاتٍ أساسية في كافة أنحاء العالم، مهما تطورت التكنولوجيا أو جنحت المفاهيم تلبية لتلك التطورات. وفي علم الموسيقى أيضاً، هنالك مُحدداتٌ ونواميسُ معروفة، أصبحت عِلماً يُدّرس في الجامعات والمعاهد المتخصصة، وتعارفَ الموسيقيون على مقاماتٍ لا يجوز التداخل فيما بينها، تماماً كما هو الحال مع إلباس الكلمات صنفاً من هذه المقامات، حسب لون الكلمة، من: صبا، نهاوند، رست، عجم، سيكا، حجاز.. إلخ. وهنالك مفاهيم في الموسيقى لا يمكن الخروج عنها، وقد ذكَر نقشٌ أنه في القرن السابع قبل الميلاد، وفي عهد الملك (آشوربانيبال)، أن الأسرى العرب كانوا يقضون وقتهم بالغناء والموسيقى. ولقد عُرفت الموسيقى العربية في الجاهلية، وكان (عديّ بن ربيعة) شاعر (بني تغلب) قد اشتهر في عِلم الموسيقى. وساهم ظهور علم العروض — الذي عُرف بميزان الشعر — على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي (175 هجرية)، ومن بعده (ياقوت الحموي) الذي ضبط اللغة على العروض. ثم جاء (إسحاق الموصلي) نادم الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق، الذي وُلد في (الريّ) عام 767 ميلادية، واشتهر بكونه عالِماً في الموسيقى! ناهيك عن علماء الموسيقى في العصور الأوروبية المختلفة. نقول هذا للتدليل على أنه مهما حصل من تطوّر في الحياة وأساليبها لا تتغيّر الحقائق أو الأسس التي وضعها الأوائل، تماماً كما هو علم الرياضيات،وغيره من العلوم الراسخة التي أُسِست عليها الحضارة. وفي الفن التشكيلي، هنالك مدارسُ ومُحددات، لا يمكن أن تتداخل فيما بينها أو تختلط أنواعها واتجاهاتها. مثل: الواقعية، السيريالية، التكعيبية، الوحشية، التجريدية، التبريرية، الدادية، التحطيمية.. إلخ. ورغم تطور الحياة وتعدُد أساليبِ النظر إليها، إلّا أن هذه المدارس والاتجاهات استمرت حتى يومنا هذا، ولكل منها مدارسها ومريدوها وأساتذتها، ومناهجها. وفي الإخراج السينمائي والتلفزيوني، هنالك أعرافٌ ومُحددات لا يمكن الخروج عليها، مهما تطوّرت وسائل التصوير، أو " شطحت" أفكار كتّاب السيناريو أو الرواية! ولا يجوز الخروج على تلك المحددات، كتتابع اللقطات، الخط الوهمي، النقلات، اللقطات الافتتاحية، اللقطات المُقربة، قفز الصورة،( مقياس 4 — 3) في التلفزيون (Aspect Ratio) والذي لم يتم الخروج عليه منذ نشأة التلفزيون وحتى اليوم، مهما تفنن العابثون في تغيّر الصورة الأساس التي اعتمدها التلفزيون، كوضع الـ (Head room) أو التتابع المنطقي لـ (فريمات) الصورة، ولقطة (الكتف)... وغيرها. وفي كتابة الرواية، هنالك أيضاً مُحددات وخصائص لا يجوز الخروج عليها، كقضية: التبرير، المكان، الزمان، تطور الشخصيات، الحبكة، وجماليات السرد! والخروج على هذه المُحددات يجعل العمل الروائي مسخاً، أو تجربة هشة، أو ترفاً، ليس بالضرورة فكرياً، قدْر ما يكون " جَهْولياً "، من الجهل، في استيعاب خصائص السرد. وفي إعداد البرامج التلفزيوني أيضاً توجد مُحددات وخصائصُ لا يجوز تجاوزها، مهما كانت ظروف المحطة، أو اتجاهات بعض العاملين عليها أو القائمين عليها. ولقد خالفت العديدُ من المحطات العربية تلك المُحددات والخصائص، بحيث أصبحت تبثُّ على الجماهير برامجَ تفتقد إلى المهنية، التي تُدرّس في المعاهد والجامعات، وللأسف فقد تشوهت العديدُ من الشاشات العربية، ليس فقط بالكلمات الخارجة أو الجاهلة، أو تشويه اللغة على يد العديد من المذيعين والمذيعات الساعين والساعيات للشهرة — ليس عبر جمال الوجه أو استواء القوام — بل بالمواضيع أو أشكال الإخراج غير المهنية، الذي يقوم بها بعض "الهواة " الذين لم يدرسوا عِلم الإخراج، ولا يعرفون مجاهله، ويقومون بالتجريب في المشاهدين، على أن ذلك من التطوير والخروج على القوالب القديمة!؟ فعلى سبيل المثال: تم تصميم برامجَ لـ"تنفيع" مجموعة من المحيطين ببعض المُعدين أو أقربائهم، وتم بث برامج جدَّ هابطة، لأن بعض المُقدمات والمُقدمين يجهلون أُسُس مواجهة الكاميرا، والتقاء العينين، Eye Contact، ونقاء نطق الكلمات، وفن التلفزيون عموماً. كما ظهرت برامج تتحدث فيها أربع أو خمس نساء حول موضوع معين، وللأسف، بلهجات متعددة، ما أضاع هوية المحطة الخليجية، وجعلَ المشاهد تائهاً أمام بعض المصطلحات (اللهجَويّة العربية) التي لا يعرفها المجتمع الخليجي. كما ظهرت برامج لم يتم تدريب مُعدِّيها ومقدِّميها على الفن التلفزيوني! وهكذا وجدنا أنفسنا — في زحمة التكالب على الشهرة والتنفع — أمام "مسوخات" تلفزيونية، خالفت كلَّ القواعد المهنية التي درسناها في الجامعات، وخالفت الذوقَ في كثير من الأحيان. ولقد شاهدنا برامج تبدو " دعائية " للمُقدمة، ذاتِ القوام المَمشوق! إذ لا يجوز أن يملأ المُعد وقتَ البرنامج بلقطات تزيد على خمس دقائق تظهر فيها المذيعة وهي تتجول في الأسواق أو تجلس على المقاهي، دونما مبرر، وهذا ما يُطلق عليه في علم التلفزيون (Long Air) ؛ غير المقبول في علم التلفزيون. ذلك أن سبب هذا التوجه، إما أن المُعد ليس لديه وقت لصياغة كلام يُصاحب اللقطات، لأنه يتسلم مكافأته حسب طول البرنامج، أو أن المُخرج قد وقع تحت إلحاح و"نرجسية" المذيعة، فتجاوب معها، مُخّلا بالمهنية وبمُحددات العمل التلفزيون، والأسوأ في الأمر إن كانت المذيعة لا تُجيد اللغة العربية الفصحى. كما ظهر في الآونة الأخيرة " المقدم الرديف"، وهو أن يؤتى بمقدم شاب ليست له خبرة مواجهة الجمهور أو الكاميرا، وليست لدية الثقافة المؤهلة للمشاركة في تقديم برنامج جماهيري ثقافي، مع مذيع له خبرة 30 عامًا في تقديم هذا البرنامج؟! وهذا يُشوّه صورة البرنامج التي تعوّد عليها الجمهور. نقول هذا الكلام — بعد تجربة تزيد على أربعين عاماً — في عالم الإعداد والتقديم وتدريس الفن التلفزيوني في الجامعة! ومهما حاول البعض القفز على المُحددات التي وضعها علماءُ التلفزيون لا " الهواة" الساعون للشهرة والعابثون بقوانين وأعراف البث التلفزيوني، تبقى للبرنامج التلفزيوني مُحدداته وأُطرهُ التي لا يجوز الخروج عليها. قد يقول قائل: لقد تغيّر الذوق، وليس من المُمكن القبول بالقوالب القديمة؟ وهذا حق، ولكن جواب هذا السؤال لا يكون في قبول مخالفة قواعد ونواميس الإعداد والتقديم التلفزيوني، والإتيان بوجوه " حسناء" قد تصلح لمهنٍ أخرى، ولكن ليس للتقديم التلفزيوني! صحيح نحن ندرك أن لدى البعض — غير المؤهل — "هوس" في الشهرة وكسب المال، وهذا أيضاً حق، ولكن لا بد من التأهل، والتدريب، والقراءة الصحيحة، فالتلفزيون ليس صندوقاً للتجريب في المُشاهد، كما أنه ليس سلةَ "حاوٍ" يُخلق فيها المذيع أو المذيعة في لحظة. كما أن التقديم التلفزيوني موهبة، له خصائص تتعلق بالوجه، استواء الصوت، القسمات، النطق، الكاريزما، قوة الإقناع، الثقافة العامة، اللباقة، حُسن معاملة الضيف.. إلخ. لقد انحدر مستوى اللغة العربية لدرجة كبيرة في كثير من التلفزيونات والإذاعات العربية، رغم القوانين الصادرة بضرورة استخدام اللغة العربية الفصحى في وسائل الإعلام، ورغم حتمية ذلك، لأن البث أصبح فضائياً، والرسالة المحلية أصبحت عبر الأقمار الصناعية. لذا، علينا أن نُحسن اختيار اللغة ليفهمها كلُّ من تصل الإشارةُ إليه، في الوطن العربي. كنا في أوائل السبعينيات يشترطون علينا إجادة اللغة قبل أن نؤدي اختبار الكاميرا! ولقد درسنا اللغة العربية في الجامعة من أجل أن نقوّم لغتنا ولا نخرج على الجماهير، في صورة لا نرتضيها لأنفسنا! ويحضرني هنا تساؤل: كمّ من مواطن خليجي يُتابع مسلسلاً مغربياً أو تونسياً أو صومالياً؟ مع كل الاحترام لهذه الشعوب وحضارتها ولغتها. وبالتالي، فإن هذه الشعوب لن تقبل برامجَ أو مسلسلاتٍ بلهجة غارقة في اللهجة الخليجية!؟ وهنالك من المحطات التلفزيونية من تكون مهتمة بالحفاظ على هوية البلد، وذلك بإبراز الجوانب الأصيلة والملامح الثقافية في البلد وبلغة راقية تُعبّر عن مضمون الصورة، فما بالكم لو أقدمت محطة خليجية على بث برنامج أو أكثر، يكون المُعدون والمقدمون فيه من غير المواطنين، واللغة أيضاً غير عربية؟! وتوجد شواهدُ هذه الأيام على صدقِ ما نقول!. أودُّ ألّا يُحمّلَ كلامي أكثر مما يستحمله، فهذه صرخة أو دعوة أمل، ألّا نترك الحبل على الغارب لمجموعة من " الهواة " أو الساعين للشهرة لتشويه شاشاتنا الخليجية! وأن توضع الأمور في نصابها فيما يتعلق بهذا الفن الجميل، وأن نسعى لتدريب المُعدين والمقدمين قبل الزجِّ بهم في أتون التلفزيون، فيظهرون بشكل متواضع، ثم نوقفهم بقرار! وأستحضر هنا طُرفة مفادها أن موظفاً كان يعمل (سبّاكاً) في إذاعة خليجية، تم تعيينه (فنياً) في محطة فضائية وبراتب يفوق راتبه الأول بخمسة أضعاف أو ستة؟! والأمر لكم في تفسير ما سبق، اعتماداً على هذه الطرفة الحقيقية! نقول: لقد أصبحت مهنة الإعداد والتقديم التلفزيوني مهنة من لا مهنة له! ولا بد من تصحيح المسارات.