30 أكتوبر 2025
تسجيلفي اللغة المصرية صيغتان للدلالة على الأبوة إحداهما معرفة بالألف واللام وهي [ البابا] وتدل على كبير أساقفة الأقباط ولا تُطلق على غيره، والثانية صيغة منكَّرة [ بابا ] وتستعمل في معنى الأب الوالد، وقد تستعمل نادرا – من باب التدليل والتفكه- بين الزوجين أو الحبيبين. وبرحيل البابا شنودة الثالث رحلت كلمة البابا، وبقيت كلمة (بابا) بمعنى السلطة الوالدية التي تقدر على فعل كل شيء بلا تردد ولا تكاسل ولا حق لها في تردد ولا تكاسل. ولا يستطيع أحد أن يتنبأ: متى تستطيع الثقافة المصرية أن تتخلص من مفهوم الأبوة الذي يحرك كل سلوكيات المصريين، ويهيمن على تفكيرهم؟ هذا المفهوم متجذر في النفسية المصرية منذ آلاف السنين، من وقت أن كان الفرعون إلهاً معبوداً، يقول لشعبه: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، أو يقول لهم: ما علمت لكم من إله غيري. وقد تقبلت الذهنية المصرية هذه الوجهة من التفكير وما يترتب عليه من سلوك، حتى صارت كل الأعمال في البيوت، وفي الهيئات العامة، وفي الدوائر الحكومية - مهما تكن مستوياتها - قائمة على مبدأ تركيز السلطة في يد شخص واحد هو صاحب السلطة الأعلى، فإذا قرأت أي مذكرة مرفوعة من رئيس قسم أو مدير إدارة أو مدير عام أو ما شئت من الوظائف إلى من هو أعلى درجة في السلم الوظيفي تجدها تنتهي بهذه العبارة الكهنوتية الخالدة المحنطة (....والأمر مفوض لسعادتكم للتفضل بالتوجيه بما ترونه مناسباً) وكأن الرئيس الأعلى يمتلك المعرفة العلمية والفنية والقانونية والمالية والإدارية والمخزنية والأرشيفية والصحية معاً وكل ما تتضمنه المذكرات قبل هذا السطر الكهنوتي المحنط الخالد هو مجرد عرض موجز لتسلسل الواقعة أو الموضوع. هذا النمط من التفكير، مضافاً إليه اختيار الوزراء تبعاً للعلاقات الشخصية التي تربط المرشح للوزارة بصاحب القرار، أو بالأجهزة الرقابية المنوط بها الترشيح، مضافاً إليه اختيار المحافظين ورؤساء الأحياء بمنطق المحاصصة (ربع العدد للقادة السابقين بالجيش والربع للشرطة والربع للجامعة والربع للقضاء) في ظل غياب حزمة تشريعات، واضحة ومتكاملة، تجمع مفاهيم وحدود سلطات المحافظين ورؤساء الأحياء وتحدد مجالات سلطاتهم وواجباتهم وحدود مسؤولياتهم ومصادر تمويلهم. هذا النمط الأبوي في التفكير، وهذا الأسلوب (الأبوي!!) في اختيار القيادات عن طريق الاسترضاء ومهادنة القوى الفاعلة بأسلوب المحاصصة، كل ذلك أدى إلى تآكل وضمور مسؤوليات دولاب العمل الحكومي اليومي، وأصبح غياب ما يُعرف بـ(الصف الثاني) من القيادات ملموسا ومحسوسا في جميع مستويات الإدارة الحكومية وشبه الحكومية. وفي هذا السياق، لا يستغرب أحد حين يرى مفكرا أو محللا أو كاتبا أو فنانا وهو ضيف بأحد البرامج المرئية، يستجدي تدخل " السيد الرئيس" لحل مشكلة القمامة في الطرق، أو تدافع الجماهير في طوابير الخبز أو طوابير الغاز مع أن هذه المشكلات وأمثالها مسؤولية مباشرة لموظفين صغار يرأسهم موظفون كبار يدير أعمالهم موظفون أكبر وأكبر وتتسع دوائر المسؤولية حتى تصل إلى مستوى الوزير أو المحافظ. ومنذ أعوام ثلاثة فضفضت تلميذة بالصف الأول من الثانوية العامة بمحافظة الدقهلية فكتبت في موضوع التعبير في مادة اللغة العربية عما أسمته (الفساد) وصنع صنيعها تلميذ آخر في محافظة الأقصر بالصعيد.. فأبلغ المعلم المنوط به التصحيح الواقعة للمعلم الأول الذي أبلغها بدوره للموجه فلمدير الإدارة فللمدير العام فلوكيل الوزارة ثم للوزير... ولم يستطع أحد من كل هؤلاء- حتى الوزير يسري الجمل وقتها - أن يتخذ قرارا: بالرسوب أو بالنجاح خوفا من بطش عائلة مبارك، حتى أثارت برامج الفضائيات القصة فتدخل (بابا) مبارك وأمر بإنجاح التلميذين! فطبَّل رؤساء التحرير الرقاصون الطبالون وزمَّروا وهتفوا بحياة فخامته وتواضعه و(أبوته) الحانية. وحتى بعد ثورة يناير المجيدة وتولي الرئيس محمد مرسي مقاليد الرياسة مازال الإعلاميون وضيوفهم يُحيلون كل ما يُعرَض، أو يَعْرِض من مشكلات على اهتمام السيد الرئيس، وحكمة السيد الرئيس بوصفه (بابا) المسؤول عن كل هموم البيت المصري، ولعل هذا السلوك الإعلامي التواكلي الإحالي المتخلف هو ما جعل الشاعر الراحل أمل دنقل يقول في قصيدته الشهيرة (كلمات سبارتاكوس الأخيرة) مقطوعته الذائعة: ... لا تحلموا بعالَمٍ سعيدْ فخلف كلِّ قيصرٍ... يموتُ قيصرٌ جديدْ فالإحساس الشعبي بأن (بابا) هو الكل في الكل سيصنع من كل حاكمٍ فرعوناً صغيرا يظل يكبر ويكبر حتى يستفحل لديه الشعور بما يشبه الألوهية فيفعل بالشعب ما فعل سابقوه من الفراعنة. ولو استمر هذا الوضع فسيستمر موات المؤسسات الذي عانت منه مصر قرونا. رووا أن أمًّا مصرية أرادت أن تختبر قدرات طفلها الصغير فسألته عن كلمة مكونة من أربعة أحرف تدل على الشخص الذي يشتري طلبات البيت ويقوم على تنفيذ رغبات الجميع، كانت الأم في اختبارها تقصد بالكلمة ذات الأربعة الأحرف كلمة (خادم) ولكن الطفل فاجأها بقوله (الكلمة هي "بابا"... يا ماما)! فهل أخطأ الطفل أو أصاب؟