12 سبتمبر 2025
تسجيلعندما تجلس في غرفة مظلمة لا يوجد بها سوى شمعة مشتعلة، ماذا سترى؟ سترى بلا شك ضوء الشمعة وهو يتراقص أمامك ويضيء ما حوله.. ولكن، هل سألت نفسك يوما كيف ترى الشمعة، نحن نعلم ان حاسة البصر هي التي تنقل الصور والاشكال والألوان والحركات عبر العين الى الدماغ، وبالتالي تتحقق الرؤية، فالعين تلتقط الضوء القادم اليها من العالم الخارجي لتنعكس صورة ذلك الشيء المنظور على الشبكية التي تقوم بدورها بنقل تلك الصورة الى الدماغ، هكذا يمكن تبسيط العملية، الا ان المثير في الموضوع هنا هو أن الشمعة وشكلها وضوءها الذي يتراقص امام عينيك لم ينفذ أي من تلك الأشياء إلى داخل دماغك البتة!. فالدماغ سيبقى دائماً صندوقاً مظلماً محكم الاغلاق لا ينفذ اليه الضوء ويعيش في ظلام دامس!، إذاً كيف لنا أن نرى هذا الشيء او ذاك؟ في الواقع، فإن ما يحدث هو ان العين وعبر آلية الابصار تستقبل الاشارات الكهروضوئية فتقوم بتحويلها الى إشارات عصبية، فتنقلها الى الدماغ كـ"معطيات" فيقوم الدماغ بدوره "بتفسيرها" فيصور لك شكل ذلك الشيء المنظور الذي تبصره. والسؤال هنا.. هل ما نراه في ادمغتنا مصدره الخارج، ام الداخل؟ وهل يتحقق الوجود الخارجي بنفس الماهية المنطبعة في الدماغ؟ بل هل يتحقق وجود الشيء خارج الدماغ اساسا؟ والى اي درجة من التحقق والتطابق يتم ذلك، وإذا كانت الأشياء مصدرها الدماغ نفسه، فمن أين أتى هذا الأخير بتلك الصورة او ذلك الشكل؟ هل اختلقها دون وجود حقيقي لها، ام هي عملية تفسير لشيء أو ماهية أخرى؟ وما ذلك الشيء تحديداً؟. شكلت تلك الاسئلة منذ القدم "وما زالت" تحديا على المستوى الفلسفي والعلمي والمعرفي، وقد افترض الفيلسوف أفلاطون، في محاولته لفهم الوجود، أن ما نختبره من عالم خارجي ليس سوى صورة مستنسخة وقاصرة عما اسماه "عالم المثل"، وهو يعتقد ان تلك النسخة تعد نسخة قاصرة وغير كاملة لذلك العالم المثالي. ان عالم المثل عند افلاطون يتمثل في كونه عالم الأفكار والحقائق الجلية التي لا نرى منها في عالمنا المادي سوى صور مشوهة لحقيقتها، اما ذلك العالم "عالم المثل" او "عالم الأفكار" ففيه يكمن الوجود الحقيقي لما نشاهده من أشياء عبر حواسنا، وعليه فإن الفلسفة الافلاطونية لا تقيم وزنا للحواس في عملية إدراك العالم وإدراك الحقائق لأنها قاصرة عن ذلك، وترى ان الانسان يمكنه الوصول الى معرفة الاشياء وحقائق الأمور عبر استخدامه للحواس بجانب التفكر والتأمل. إذاً فالفلسفة المثالية ترى ان المادة هي نتاج الفكر والعقل، وان المعرفة موجودة ومتسامية ومنفصلة عن العالم المحسوس، كما انها تؤمن بتسامي العقل على المادة من حيث ان الأخيرة ما هي الا نتاج للأولى، وللتبسيط، فإن ذلك يعني ان الأشياء التي نراها حولنا وما يحيط بنا من محسوسات تشكل الوجود المادي، ما هي سوى صور لما هو موجود في الدماغ وبالتالي فهي أشياء غير متحققة موضوعيا بشكل منفصل عن الوعي والعقل. وعلى نقيض المثالية، تقع المادية ففي حين ترى المثالية مركزية الفكر والعقل وثانوية المادة، ترى الفلسفة المادية اسبقية المادة على الفكر والوعي، وتعتقد ان المادة موجودة وجودا حقيقيا بشكل منفصل عن وعينا، وان الوعي والعقل ما هو الا انعكاس للوجود المادي، وهو نتيجة لتفاعلات الكيمياء الحيوية في الدماغ. وبين الفلسفتين السابقتين يمكننا وضع الواقعية في المنتصف، والتي ترى ان الوجود المادي منفصل عن الادراك والوعي، وأن جهود فهم هذا الوجود والواقع تبقى في إطار المحاولات سعياً لمعرفة حقيقته، كما ترى أن "الحقيقة تتشكل في تطابق العقل مع الواقع"، وأن كل ملاحظة جديدة تقربنا أكثر لفهم الواقع. هناك الكثير من المقاربات والفلسفات التي تحاول فهم الواقع وتطرح أسئلة كبيرة حول الوجود المادي خارج الدماغ، وشكله ودرجة تحققه، والأهم من ذلك أنها تطرح سؤالاً عن مدى قدرتنا على إدراك هذا الواقع المادي او بمعنى آخر قدرتنا على الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بماهية الأشياء وحقيقتها. ان هذا العرض المبسط وربما المخل، يخرجنا من البديهية والاطمئنان الى متعة التساؤل والتفكر، ويطرح أسئلة جوهرية عن الوجود المحيط بنا، وعن ماهيته وكيفية شكله، ولماذا نفترض ان ما نراه "بأعيننا" هو الواقع الحقيقي، وما الحقيقية أصلا وهل يمكننا ادراكها؟ كيف نرى الألوان والاشكال؟ وهل نحن جميعاً نرى الألوان بشكل متشابه؟ واذا كانت الاجابة "لا" كيف نستطيع شرح ذلك للآخر او اثباته؟ وهل اللغة أساسا قادرة على توصيف الواقع والوجود؟ والأهم من هذا وذاك هل يعد الواقع المادي الذي نراه مجرد "صورة" كالصور التي نراها على أجهزة الحواسيب والتي يتم انتاجها عبر الخوارزميات والأرقام؟ وما الشيء او المعطى الذي يختبئ خلف الوجود المادي؟. اسئلة كثير وكبيرة لا حصر لها تتقافز الى الذهن عند التفكر والتأمل في حقيقة الوجود، وعلامات الاستفهام التي تطرحها هذه القضية تخفي وراءها اسئلة أكبر وتشمل حقولاً معرفية اكثر، وتزعزع ثقتنا بالحقائق النسبية التي قد نتمسك بها ونركن اليها، واذا كان الوجود "الجلي" كما نراه بوضوح يطرح كل هذه التساؤلات المحيرة، فلا بد ان يتولد إشكال يتعلق بحقيقة الأفكار وماهيتها وما هو النسبي وما هو المطلق؟ وهل نمتلك القدرة على إدراك الحقائق؟ ناهيك عن التمسك بها والتعصب لها!. ان هذه الأسئلة المؤرقة التي تتطرق للوجود لابد انها ستمتحن الفكر أيضاً، وستعرج على مسألة جدوى التمسك بآرائنا والتعصب لها ورفض الآراء المخالفة، وستبين لنا هشاشة الفكر الانساني وعلاقته المتزعزعة بمحيطه، وستثبت لنا ان معرفتنا ما هي الا معرفة نسبية بل وقاصرة. وفي الختام لابد ان ابين ان هذا المقال لا يُتوقع أو يُنتظر منه أن يقدم إجابة على سؤال الوجود، وليس هذا مراده، بل يكفي ان يبين ان هناك سؤالا يتعلق بحقيقة وماهية الوجود أساسا، وكيف نرى هذا الوجود؟ ويثبت قصور ادراكنا ووعينا ومدى تواضعه في معرفة الحقائق والنسبية التي تغلف احكامنا، وهنا أستذكر بيتاً للشاعر إيليا أبوماضي الذي قال فيه: أيهذا الشاكي وما بك داء.. كن جميلا تر الوجود جميلا.